يفصل «التيار الوطني الحر» (يقوده العماد ميشال عون) نحو شهرين ونصف الشهر عن أول انتخابات حزبية تُجرى داخله في العشرين من سبتمبر المقبل، وهي مدة تُعتبر كافية كي يستنهض المرشحون إلى منصب الرئيس ونائب الرئيس القاعدة العونية، رغم أن الفريقيْن المتنافسيْن منشغلان منذ أشهر بحشد طاقاتهما لمعركة مصيرية تحدد مستقبل التيار ومناصريه.وتشكل هذه المعركة أول تحدٍ حقيقي على طريق مأْسسة «التيار الحر» الذي كان انطلق في آواخر الثمانينات من القرن الماضي حين كان العماد ميشال عون رئيساً للحكومة الانتقالية (بين 1988 و1990) في ظل الشغور الرئاسي الأول الذي عرفه لبنان بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل.«شعب لبنان العظيم» الذي كان عون يتوجّه إليه من خلال الحشود التي كانت تتجمع في ساحة القصر الجمهوري، تحوّل تدريجياً بعد خروج عون من بيروت إلى المنفى خلايا تعمل في السرّ في غالبية الأحيان وفي العلن أحياناً خلال فترة الوجود السوري في لبنان.تدريجياً تأطّرت هذه المجموعات ولا سيما الشابة منها تحت اسم «التيار الوطني الحر»، وكانت تعمل في لصْق المطبوعات على الجدران وتوزيع المناشير للمطالبة بخروج الجيش السوري وعودة عون من المنفى الباريسي. كانت لعبة شابات وشبان التيار مع النظام السوري والأجهزة الأمنية في ذلك الحين، بين كرّ وفرّ، لكنها عجنت هؤلاء المناصرين بأولى تجاربهم الحزبية، ولو من دون إطارٍ حزبي.من ذلك العمل الطلابي والجامعي والجماهيري، انطلقت أسماء لمعت في ما بعد في عالم «التيار الوطني الحر» وفي السياسة المحلية. وعلى طريق صعود التيار من التسعينات وحتى العام 2005 مروراً بمرحلة 7 أغسطس من العام 2001 والتي كانت أول انتفاضة حقيقية في وجه السوريين والنظام اللبناني الموالي لهم آنذاك، ظهرت أسماء عدة، وانضمت إلى التيار أسماء جديدة، وانفصلت عنه أيضاً أسماء كثيرة.ومع عودة عون في مايو 2005 تأصل الخلاف الداخلي أكثر فأكثر مع انفصال شخصيات أساسية عن التيار عُرفت سابقاً بالتزامها به. ويعتبر العونيون دأن مَن انفصل فعل ذلك لأن عون لم يختره مرشحاً للنيابة في انتخابات العام 2005 والعام 2009 أو وزيراً في الحكومات المتعاقبة التي شارك فيها التيار.أما الخارجون عن التيار فيردّون الأمر إلى خلافات سياسية سواء لجهة ترميم العلاقة مع سورية والانفصال عن قوى 14 مارس أو توقيع ورقة التفاهم مع «حزب الله» بما يتناقض مع روحية التيار ومفاهيمه التي انطلق عمله على أساسها.بين الرؤيتين، كانت فكرة تحويل التيار المتمدد أفقياً في كل لبنان، تتأرجح بين مؤيّد ورافض. الفريق الأول يعتبر أنه حان الوقت لتحويل التيار مؤسسة حزبية تجري انتخابات، وفيها تراتبية وقرارات متدرّجة، لأن التيار انتقل من مرحلة الشعبية السياسية إلى العمل الحكومي والنيابي والرئاسي، ما يفترض تحوله إلى قوة حزبية على غرار الأحزاب الكبرى ومنها المسيحية كـ «الكتائب» و«القوات اللبنانية». أما الفريق الثاني فكان يريد تأخير تحويل التيار إلى مؤسسة حزبية لأسباب يردّها البعض إلى أن لها صلة بالتوريث العائلي بعدما تحكّمت بعون دائرة من المحيطين به من العائلة نفسها.فالعائلية دخلت إلى التيار من الباب العريض. إذ كيف يمكن لمنتقدي التيار ألا يغمزوا من قناة عون وأصهرته، الوزير جبران باسيل، والعميد شامل روكز ورئيس مجلس إدارة تلفزيون «أو تي في» روي هاشم وبناته اللواتي يتعاطين في شؤون التيار، وابن شقيقته النائب آلان عون وابن شقيقه نعيم عون الذي يطمح اليوم إلى قيادة التيار من زاوية معارَضة الوزير جبران باسيل.أرخت العائلية ظلالها على محاولة السير بتحويل التيار حزباً رسمياً له نظامه الداخلي ويَشهد للمرة الأولى انتخابات لرئاسة الحزب يريدها عون كما قال أخيراً «على حياته».وشكّل تحديد موعد الانتخابات في العشرين من سبتمبر المقبل مفارقة للبعض، إذ إن انتخابات الرئيس أتت قبل الانتخابات على مستوى المناطق وتعيين اللجان المركزية والداخلية والمؤتمر التنظيمي التي حُددت بدءاً من نوفمبر وحتى مارس 2016. فيما البعض يعتبر أنه كان الأوْلى القيام بالعكس، لأن أي رئيس منتخب سيكون قادراً على التأثير في كل مجريات أعمال الحزب الذي سيترأسه، سواء على مستوى الانتخابات أو التعيين.ومن هنا بدأت معركة شدّ العصَب داخل التيار بين فريقيْن لإيصال المرشح الرئاسي الأول لزعامة التيار.ومعلوم أن وزير الخارجية جبران باسيل هو المرشح الأكثر تقدماً والأوفر حظاً كي يكون رئيساً للتيار الوطني الحر، وإن لم يكن الأمر محسوماً مئة في المئة، ذلك أن معارضيه يؤكدون أن القاعدة العونية لم تحدد خياراتها بعد. لكن ثمة مفارقة أساسية في انتخابات التيار هي أن منافسي باسيل لا يعلنون عن أنفسهم صراحة. والأبرز بينهم هو نعيم عون ابن شقيق الجنرال، والذي يُعد أشدّ خصوم باسيل وأكثر العونيين الذين يجاهرون بخصومتهم ومآخذهم على آداء صهر عمه وطريقة تصرفه داخل التيار. والآخرون يدوّرون الزوايا ويتلطون خلف ستار قيادات حزبية، رغم أن العونيين يسمّون أحياناً النائب آلان عون كخصم أساسي، وأحياناً النائبين إبرهيم كنعان وزياد أسود المتحفظيْن عن الدخول مباشرة في لعبة تحدي باسيل. لكن ما عدا ذلك لا صورة واضحة لمَن يخوض المعركة في وجه وزير الخارجية الحالي.الانطباع العام لدى العونيين ولدى القوى السياسية المناوئة لعون، أن باسيل ليس شعبياً في التيار وأن حظوته لدى عون تتأتى من أنه الابن الذي لم يلده، وأنه الصهر المدلل الذي رافقه في رحلة المنفى والعودة والصعود السياسي بعد العام 2005. والانطباع أيضاً أن الأمور لن تكون محسومة لباسيل بسبب شدّة المعارضة التي يلقاها داخل التيار.لكن هذه الانطباعات لا تجد صداها لدى مؤيّدي باسيل رئيساً للتيار. ذلك أن باسيل حفظ لنفسه في الأعوام الأخيرة مقعداً بارزاً في الوسط السياسي. فهو نسَجَ علاقات مع «حزب الله» ومع الرئيس نبيه بري وهو أول مَن فتح خط العلاقة مع الرئيس سعد الحريري وزاره في السعودية. وتدرّج تَصاعُدياً في التيار وفي الحكومات المتعاقبة التي حلّ فيها وزيراً للاتصالات والطاقة والخارجية. وفي كل وزارة، بنى لنفسه موقعاً متقدماً عبر اتصالات ديبلوماسية وداخلية. لكن وزارة الخارجية فتحت له أبواب النعيم السياسي على مصراعيه، واستفاد منها ليحقق خطوات متقدمة ويعزز نفوذه داخل التيار في لبنان وفي الاغتراب. ذلك أن جولات باسيل الاغترابية أكثر من أن تُحصى، لكنه في مقابل كل جولة اغترابية، كان يُعدّ برنامجاً حافلاً لزياراته المناطقية في لبنان. من الجنوب إلى عكار وزحلة والبقاع والأطراف التي دخل بيوت العونيين فيها.وفي الأشهر الأخيرة، عرف وزير الخارجية كيف يمكن أن يتقدم داخل التيار من خلال جولات مناطقية، ومن خلال لقاءات لكوادر التيار يجريها في صورة دورية ومن دون انقطاع. ويعرف باسيل حجم المعركة الداخلية التي تخاض ضده، لكنه يعرف أيضاً موقعه لدى الجنرال الذي يأتمنه على كثير من أسرار التيار والسياسة الداخلية والخارجية.في المقابل هناك مجموعة من الأسماء التي تنضوي تحت اسم معارضي باسيل بالدرجة الأولى، ومن بعد ذلك تحت خانة المآخذ التي تسجّلها على النظام الداخلي وهيْمنة فريق معيّن على مقررات التيار ومقدراته المالية والسياسية والحزبية.ورغم أن الفريق المعارض يعتبر أن لا شيء محسوماً بعد وأن باسيل لن يصبح رئيساً للتيار،إلا أن لا مرشح رسمياً معلناً بعد في مواجهة باسيل. وفي الأسابيع الأخيرة، ارتفعت أسهم العميد شامل روكز لرئاسة التيار. لكن هناك معضلة حقيقية أمام روكز الذي ينهي خدمته العسكرية في 15 أكتوبر المقبل، وهي أن عون يطرح اسمه لخلافة قائد الجيش العماد جان قهوجي، وبما أن المعركة السياسية لعدم التمديد لقهوجي التي يقودها عون قد لا تنتهي قبل 23 سبتمبر الموعد المبدئي لإحالة قهوجي إلى التقاعد إذا لم يُمدَّد له، فإن حظوظ روكز في التحول إلى العمل السياسي والحزبي سيكون على المحك. لأن ثلاثة أسابيع فقط تفصل بين موعد انتخاب رئيس التيار وترْكه خدمته في الجيش اللبناني.بعض أوساط التيار المعارض لباسيل رئيساً، لا ترى حتى اليوم أن هناك حظوظاً لروكز رئيساً للتيار، رغم أن للأخير شعبيته داخله التي لم تأتِ من طريق مصاهرته لعون، بل من طريق أولاً انتسابه للجيش كونه قائداً لفوج المغاوير وبين الجش والتيار الوطني «علاقة عشق دائمة»، وثانياً خوضه معارك مفصلية كنهر البارد وعبرا إذ حقق روكز شعبية جماهيرية في الوسط العوني عبر هذه المعارك التي واجه فيها تنظيمات «فتح الإسلام» ومجموعات الشيخ أحمد الأسير.وروكز الذي لا يتعاطى السياسة في شكل مباشر، قريب من الأجواء الشبابية في التيار، وحفظ لنفسه مكانة بينهم. إلا أن صياغة موقعه المستقبلي لم تُحسم بعد، لأن ذلك أولاً وأخيراً خيار عون وحده للمفاضلة بين وريثيْه باسيل وروكز. علماً أن نصائح عدة تلقاها روكز أخيراً بتقديم استقالته مبكراً من الجيش لخوض معركة التيار سياسياً في شكل مكشوف. لكن هذا القرار لا يمكن أن يجد طريقه إلى التنفيذ قبل أن تُحسم معركة عون على موقع قيادة الجيش.على أن التنافس على رئاسة التيار لا ينحصر بالاسمين المذكورين فحسب. إذ يحاول نعيم عون شقّ طريقه إلى رئاسة التيار أو طرح أسماء مقبولة في القاعدة الجماهيرية. لأن لهذه القاعدة جملة مآخذ على أداء القيادة السياسية ولا سيما لجهة دور باسيل وتعويمه وتحميله مسؤولية ما يحصل من مآزق وصل إليها التيار الوطني الحر. لكن نعيم، الذي سجّل كثيراً من العتب على الجنرال بسبب إبعاده مع المجموعات الشبابية، وبسبب تقريبه عدداً من رجال الأعمال وتوزيرهم أو ترشيحهم نواباً، لا يحظى بدعم واسع، رغم كونه ابن «أبو نعيم»، أي شقيق الجنرال الراحل الذي كان يحيط شابات وشبان التيار خلال فترة نفي عون في باريس ويعمل على تحقيق التواصل بينهم ورعايتهم.وكان نعيم عون أحد الذين خاضوا مواجهات في كل مراحل صعود التيار، لكنه كان الوحيد من الحلقة العائلية الذي لم يعطَ شيئاً من «نعيم السلطة» التي وصل إليها التيار بعد العام 2005. وسبق له أن وجّه انتقادات علنية ورسائل مباشرة حول أداء التيار وانتقادات حادة على ما يحصل في داخله، وهو أكثر الذين حاربوا من أجل عقد المؤتمر العام وسجّل ملاحظات كثيرة قبل تحديد موعد الانتخابات وصدور النظام الداخلي للحزب والتعديلات التي أجريت عليه من دون علمه. لكن هذا لا يعني أن حظوظه قوية للوصول إلى رئاسة التيار، لا بل أن أجواء أشيعت داخل التيار تحدثت عن محاولات لإقناعه بأن يقبل بمنصب نائب الرئيس. علماً أنه لا يمكن لعارفي باسيل ونعيم عون أن يصدّقا بمكان تفاهمهما ولو بالحد الأدنى، كما أن أي لائحة ترشُّح ستحمل اسم الرئيس ونائب الرئيس معاً، وحتى الآن لا يبدو أن أيّ تفاهمات ستعقد بين الفريقين المتخاصمين منذ أشهر إن لم يكن سنوات. وحتى الآن يبدو الحبل على الجرار، وأزمة انتخابات رئيس للتيار لن تكون أقل حدة وتأثيراً من الخلافات الأساسية التي كانت وراء دعوة المعترضين على تنظيم انتخابات ديموقراطية في التيار الوطني الحر. لكن على ما يبدو فلن نشهد رئيساً من خارج التوقعات المعروفة، لأن «الانتخابات» وُلدت من العائلة وستعود إليها.