ربما يميل الكثير إلى الاعتقاد أن افتقاد، أو محدودية، الوسائل التقنية لدى شباب البلدان العربية عموماً هو السبب الرئيس في سلبية دور الشباب العربي وضعفه، إلا أن هذا الفهم تضعف أسسه حين نرى أن في هذه المنطقة أو تلك من البلدان العربية تتوافر التكنولوجيا الحديثة وبمتناول شريحة لا بأس بها من الشباب، ومع ذلك فإن المردود في أداء الشباب ممتلكيها لا يختلف عموماً عن نظيره في أي مكان آخر من العالم العربي. فالأمر، في الواقع، أعمق من محض توافر وسائل تكنولوجية؛ إنه ما يمكن أن نختصره، بواضح العبارة، إلى خلل بنيوي في المجتمعات العربية، والخلل البنيوي هذا لا مسؤولية مباشرة للشباب عنه، بل منشأه تربوي، اجتماعي، ثقافي، وسياسي. القضية ليست امتلاك، أو عدم توافر، المقدرة التقنية بقدر ما هي قضية افتقار إلى العيش بمقومات وشروط متناسبة وعالم اليوم بالدرجة الأولى على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، عموماً فهي عوامل مترابطة ببعضها البعض وتلعب دوراً حاسماً في صنع الفرد المبادِر. وللخروج من الواقع السلبي للشباب العربي، على التوازي مع تأمين الوسائل العلمية والمخابر والحواسب والمكتبات... يجب مراعاة حاجات الإنسان الاجتماعية، والسياسية والنفسية. لو وضعنا جانباً المشكلات العامة والموجودة في التقارير الرسمية لجامعة الدول العربية وهذه الجهة أو تلك (والتي تركز على البطالة والفقر... والتفاوت في تفاصيل وطبيعة وحجم المشاكل بين بلد وآخر) لوجدنا أن المشكلة الأساسية في العالم العربي هي مشكلة بناء الإنسان. على عكس ما يجري في العالم المتقدم، والساعي نحو التقدم، إذ تجهد المؤسسات المسؤولة بدءاً من المؤسسة الصغيرة (الأسرة) ومروراً بمؤسسات الدولة التعليمية (المدرسة والجامعة) لتنشئة الفرد بشكل يخوّله ليس فقط استخدام وتنمية مواهبه، بل وأيضاً امتلاك روح المبادرة عبر التشجيع على البحث، نجد في عالمنا كل ما به تحديد، وتحجيم وشل للفرد وقدراته في مرحلة التنشئة، كما في مرحلة الشباب، ناهيك عن معوقات التعفن البيروقراطي التي تعترضه، يخضع الشباب العربي ضمن الأجواء المحيطة به للضغوط الناتجة عن التعامل مع مسائل ممنوع الخوض فيها.بخلاف ما يجري في العالم، إذ يُشجَّع الفرد على البحث وتقصي المعلومة وتفحصها ومحاكمتها، فإن الفرد في العالم العربي محشور بشكل قسري ومنذ مراحل مبكرة من عمره بجو يقيّد من حركته ويشل منها ما لا غنى عنه عند إعداد الشخصية القادرة والمبادرة، وفي مراحل لاحقة من سن الشباب، يجد الفرد نفسه مضطراً على حصر حركته، عموماً، ضمن خطوط عرض مرسومة وفقاً لمقاييس ومعايير وقواميس ونواميس المجتمع والواقع السياسي والثقافي المحيط به. تمعناً بما هو سائد في العالم، على سبيل المثال وليس الحصر، نجد أن دور المعلم في المدرسة والأستاذ الجامعي إرشادي وتشجيعي أكثر منه تلقيني من حيث توجيه التلامذة والطلاب وحضهم على البحث ورؤية كل شيء وفقاً لمداركهم وتلقفهم، وتلقيهم ومحاكمتهم للمعلومات وكذلك جعل ما يرونه أو يصلون إليه أمراً يخضع للنقاش مع الآخرين، بل وهناك بعض الأقسام في جامعات العالم (في العلوم الإنسانية خصوصاً) التي تختار طلابها ممن يمكن تصنيفهم بالمشاكسين دراسياً من ناحية تركيز هؤلاء الدائم على إيجاد الفجوات في مدى صلاحية هذه الفكرة أو ذاك المفهوم وتبويب الثغرات والعيوب، بدلاً من القبول بالأفكار كما هي واعتبارها حقائق مطلقة. بمختصر العبارة، إضافة إلى الشكل الديموقراطي في التعاطي مع المسألة، يدل سلوك طاقم إعداد الأجيال في البلدان المتقدمة من العالم وتربيتها لتمكينها من المشاركة في تطوير مجتمعاتها على النضج، إذ يستخلص منه أن لا مفهوم، ولا أفكار ولا معلومات علمية هي مطلقة من حيث صلاحيتها وسريان مفعولها وإنما جميعها قابلة للتطوير وتخضع لشروط ومعايير الزمان والمكان من دون أن يكون هناك تبجح بمقدرة المعلم أو الأستاذ الجامعي.ربما يجنح البعض إلى القول بأن مساهمة الشباب في أخذ دور مهم في بناء مجتمعاتهم تقتصر على إيجاد فرص عمل مع وضع اقتصادي جيد، إلا أن هذا القول يفتقر إلى الدقة، لأن حاجات إنسان اليوم لا تتوقف عند الوضع الاقتصادي، وإنما تتعدى ذلك لتشمل الجانب السياسي والاجتماعي والنفسي؛ فالاستبداد أكبر عدو للإبداع، والقيود الاجتماعية هي السجن المباشر لإمكانات الشباب. ومرة أخرى نشير إلى أن مشاكل الشباب العربي تتلخص في التناقض بين ما هو مسموح ومتاح له اجتماعياً وسياسياً وبين ما يحتاجه بشكل فعلي كإنسان يعيش في عالم اليوم.  الشباب العربي يُدفع إلى زاوية ليصبح بها ليس فقط غير قادر على مواكبة ما يجري في عالم دائم التقدم والتطور، بل أيضاً غير قادر على فهم أو تفهم ما يجري في العالم فيتخندق بموقع يعزو منه جميع مشاكله إلى عوامل خارجية ويعتبر به أن العالم يتآمر عليه ويهدف إلى محو هويته أو يريد أن يزيله من الوجود... ولن يكون أمامه إلا - أو يتجه بشكل تلقائي إلى -التزمت كنوع من إثبات الوجود، لأنه عاجز عن ذلك معارفياً وتقنياً (والدفع إلى هذه الزاوية هو المحرك الأساس لسلبية، وأفعال وردود أفعال الشاب العربي إلى حد كبير جداً). الشباب العربي يبدو، وهذا ليس سراً، أنه ماض في سيره باتجاه فقد الصلة بواقع عالم اليوم، وربما ستكون الصورة أكثر مأسوية في المستقبل، إذ لن يعرف الشباب العربي عما يتكلم الغرب، ما لم يعَد النظر بالوضعين الاجتماعي والسياسي للشباب جنباً إلى جنب مع الوضع الاقتصادي.

أكرم شلغين

كاتب سوري مقيم في ألمانيا، هذا المقال برعاية «مصباح الحرية» www.misbahalhurriyya.org