دمّر تنظيم «داعش» سجن تدمر بعد الاستيلاء على المدينة، فيما يبقى مصير المعتقلين داخله مجهولاً وعرضة للتكهنات، وبهذا قد يكون تنظيم «الدولة الاسلامية» قدّم أكبر خدمة للنظام السوري في إخفاء الجرائم التي ارتكبها هناك بحقّ عشرات الآلاف من المعتقلين، من مختلف الجنسيات.أحد أبرز رموز الثورة لا بل منظّرها والمناضل المعروف ياسين الحاج الصالح، الموجود في تركيا اليوم بعد الإفراج عنه وتلقيه تهديدات بالقتل فيما اختفت زوجته سميرة الخليل مع رفاقها في دوما على يد متطرفي الثورة الذين لا يطيقون علمانييها، كتب معبّراً عن حزنه على صفحته على «الفايسبوك» باللغة العامية ما يلي: «حزين على تدمير داعش لسجن تدمر... كأنهم دمروا بيتي. كان عندي حلم أزورو شي يوم، أشوف مهجع صدر جديد والمستوصف، وأطلع على الشراقة السقفية، ويمكن أمشي على سطوح المهاجع. كنت أتصور أن زيارة السجون اللي قضيت فيها وقت رح تكون نقطة الختام بعملية التحرر من السجن، التحرر الشخصي والعام.كان لازم السجون تبقى، سجن تدمر خاصة، ونزورها مختارين، حتى نتحرر منها. تدمير السجن اللي كان رمز لعبوديتنا هو تدمير لحريتنا كمان. وطبعاً خدمة عظيمة لنظام العبودية الأسدي».سجن تدمر، كان مجرد الحديث عنه يبعث السوريين وغيرهم على الارتجاف خوفاً، ممّن عانوا مرارة التجربة. فالداخل إليه مفقود والخارج منه أيضاً، وهو من السجون المصنَّفة عالمياً بالخطيرة، نظراً إلى أساليب التعذيب التي كانت تُستخدم فيه، جسدياً ونفسياً، فيتحوّل المعتقلون داخله، نتيجة تَعامُل سجّانيهم معهم، إلى أشخاص مسلوبي الإرادة ومذلولين ومقيَّدين روحياً ومعنوياً وجسدياً، وقد قُتل الكثير منهم تحت التعذيب الممنْهج، وخسروا حياتهم من دون أن يعلم بهم أحد. كما ارتُكبت داخله مجزرة أودت بحياة أكثر من 2400 سجين من المعارضة السورية في 27 يونيو 1980، وكثير من المظلومين دخلوه ولم يخرجوا منه خلال حكم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد.سجن تدمر كان ثكنة للجيش الفرنسي خلال مرحلة الانتداب على سورية، وفي العام 1966 افُتتح كسجن وُضع فيه عدد كبير من المعتقلين السياسيين والمجرمين، وعُرف بوحشية تَعامُل السجانين مع الضحايا الذين كانوا يدخلون إليه وسط تعتيم كلي عن مصيرهم ودون محاكمات، وهو يقع في منطقة صحراوية تبعد عن العاصمة دمشق نحو 200 كيلومتر.في العام 2001 أُغلق السجن بعدما ذاع صيته عالمياً، وتَردّد أن 7 مجازر ارتُكبت داخله ضد معتقلي الرأي، وأن قلائل منهم قد ينجون من عمليات التعذيب، لا سيما أولئك المتهَمين بالانقلاب على النظام أو التخطيط لاغتيال الرئيس الأسد الأب. وكان شقيقه الذي انشقّ عنه لاحقاً رفعت الأسد معروف ببطشه وقوته نتيجة مسؤوليته عن مجموعات ما يسمى سرايا الدفاع، وبقي كل ما يحصل داخل الزنازين مجهولاً تماماً نتيجة التكتم وخوف أهالي المعتقلين من بطش النظام، وقد أراد الأسد الابن لدى تَسلُّمه مقاليد الحكم أن يزيل صورة الماضي ويَظهر دولياً بوجه مختلف فأصدر قراراً بقفل السجن بعد تركيز تقارير منظمات إنسانية دولية ومنها «هيومن رايتس وتش» على انتهاكات يرتكبها النظام ضد المعتقلين السياسيين في سجن تدمر وفي سجون أخرى أيضاً مثل الحسكة حيث ارتُكبت مجزرة بحق المعتقلين الأكراد وكذلك في سجن صيدنايا عندما جرى الرد على انتفاضة المعتقلين لتحسين أوضاعهم بمزيد من الإجرام والقتل.لم تُطوَ صفحة المعتقل مع موت الأسد الأب كلياً رغم قرار بشار الابن بقفل القسم السياسي فيه ونقل ألف سجين في حينه ممن بقوا على قيد الحياة، بعد المجازر والإعدامات والتصفيات، إلى سجون أخرى، فيما جرى إطلاق نسبة ضيئلة من المعتقلين، في محاولة لإعطاء انطباع للرأي العام الدولي بأن الابن لا يشبه الأب وأن ما قام به جزءاً من الإصلاح الذي قال معارضو الأسد الابن إنه كان «يتستر بشعاره للإبقاء على سلطة العائلة الأسدية على سورية».وقد عاود الرئيس بشار الأسد مع انطلاق الثورة السورية فتح معتقل تدمر في العام 2011 بعدما فاضت سجون سورية بالناشطين السياسيين ومؤيدي الثورة وبينهم أعداد كبيرة من النساء والأطفال وكبار السن وشخصيات أكاديمية وسياسية ونخب ثقافية معروفة في العالم أجمع.وحتى الآن لا يزال مصير 20 ألف معتقل داخل السجن مجهولاً. البعض يقول انه تم نقلهم الى سجون أخرى، والبعض الآخر يشير الى ان الأسد يستخدمهم في القتال ضد معارضيه. وثمة مَن قال ان «داعش» اطلق سراح بعضهم وبينهم لبنانيون وهرب آخرين الى تركيا، الا ان ذلك يبقى مجرد تخمينات ومعلومات يتم تداولها من دون ان يجري كشف الحقائق، علماً ان مصير هؤلاء يحظى باهتمام المؤسسات الدولية والانسانية المعنية في الامم المتحدة وغيرها.«الراي» سألت الناشط السياسي خالد الحمصي (من تدمر) عما يتوافر من معلومات لديه عن السجن والمعتقلين، قبل ان يعلن «داعش» تدميره، فأوضح ان «قوات النظام نقلت قسماً كبيراً من المعتقلين العسكريين إلى جبهات القتال سواء في تدمر أو غيرها، وكان بعضهم تمّ إخراجه على مراحل أيام المعارك وزُجوا على جبهات المدينة للقتال إلى جانب قوات النظام».وعن مصير السجناء السياسيين، يقول: «لا شيء مؤكداً حتى الآن، وغالباً بحسب التوقّعات، يمكن أن يكون تمّ نقلهم منذ زمن بعيد إلى سجن صيدنايا وغيره»، مشيراً إلى «أن القصف الجوي على محيط المدينة والخوف من الطيران يجعل التحرك صعباً لمعرفة حقيقة الوضع، إلا أننا تمكنا من التأكد من أن عناصر (داعش) قاموا بعمليات تفجير عدّة داخل سجن تدمر العسكري ما أدى إلى تهديمه بالكامل، وقد قاموا قبل ذلك بإبلاغ سكان المنازل المجاورة لمحيط السجن بالابتعاد عن المنطقة أثناء عملية التفجير، كذلك بُثت نداءات في جوامع المدينة من (داعش) نبّهت الاهالي ممن يسكنون في الحي الغربي شرقي بالقرب من مقر الأمن العسكري، بإفراغ بيوتهم والابتعاد عنها لحمايتهم من الأضرار في اليومين القادمين، وذلك لأن داعش أصدر أيضا بنسف فرع الأمن العسكري (فرع البادية) بالكامل».من جهته، يفسر مسؤول الإعلام في تجمع المحامين السوريين الأحرار المحامي رضا اصطيف أسباب تدمير (داعش) لسجن تدمر بأمريْن: «الأوّل ان يكون أمر مسيّس لطمْس معالم الجرائم التي كانت تُرتكب في هذا السجن، والتفسير الآخر أن يكون (داعش) يتوقع الحرب عليه في تدمر وقد يُجبر على الانسحاب منها فدمّر السجن حتى لا يُستخدم مرة أخرى».وعن رمزية سجن تدمر بالنسبة إلى الثوار السوريين، يقول: «إن سجن تدمر بالنسبة للسوريين كافة وليس فقط للثوار رمز للظلم والقهر والموت وفيه كان غالبية المعتقلين يتمنون الموت حتى ينتهوا من العذاب الذي يعانون منه ولا سيما أن النظام كان يستخدم أساليب ووسائل تعذيب لم يعرف التاريخ لها مثيل».وعن كيفية العمل في المحافل الدولية من أجل كشف غموض مصير المعتقلين يجيب: «سيتم كشف مصيرهم من خلال العدالة الانتقالية، حيث نعمل حالياً على جمع وثائق وأدلة وشهود، ممن كانوا يخدمون في السجن او معتقلين سابقين ونحن نوثّقها بصورة دقيقة لطرحها لاحقاً على المحكمة الدولية سواء محكمة الجنايات الدولية او محكمة وطنية ذات صبغة دولية».وبتقدير اصطيف فإن المعتقلين «نُقلوا من قبل النظام إلى سجون أخرى عديدة في سورية ومنها سجن صيدنايا الذي يُعد أسوأ من تدمر، أو سجن عدرا، أو سجن دمشق المركزي أو سجن المزة التابع للمخابرات الجوية، عدا عن أن هناك سجوناً استحدثها النظام في بعض مناطقه مثل مركز دير شميل وهو مركز اعتقال للشبيحة في قرية دير شميل العلوية، وقد يكون النظام قام بتصفية العديد من المعتقلين».ويشير اصطيف إلى وجود معتقلين أيضاً لدى «داعش»، من دون أن يستبعد وجود لبنانيين أيضا بينهم، ومعتقلون من جنسيات أخرى كذلك «فسجن تدمر هو بالأساس سجن عسكري ثم حوّله النظام إلى سجن سياسي، وأكثر معتقليه من العسكريين والسياسيين أو مَن له علاقة بعمل مناهض للنظام».وأضاف اصطيف «أن تجمع المحامين السوريين الأحرار وثّق ملفات 500 ألف معتقل حتى الآن، منهم مَن اعتُقل بجرم وهو يُحاكم ومكانه معلوم، وهناك اعتقال يتخذ صفة الخطف فيكون المعتقَل بحكم المختفي قسرياً وهو مجهول المصير والمكان».وأفاد أن «هناك معتقلين من الثوار خلال الأعوام الأربعة الماضية في سجن تدمر ومصيرهم غير معروف ولا سيما من عناصر الجيش المنشقين او الذين حاولوا الانشقاق وتم كشفهم، فأكثر مَن عانى من سجن تدمر هم معتقلو الثمانينات من تنظيم الاخوان المسلمين ومعتقلو الثورة حالياً».وختم اصطيف بالاشارة الى أوضاع بقية السجون مثل سجن صيدنايا وسجن شعبة المخابرات العسكرية الموجود في سرية المداهمة أو كما تسمى الفرع 215 وسجن المزة التابع للمخابرات الجوية «فهذه السجون شهدت نسبة كبيرة من الإعدامات وجرت داخلها تصفيات جسدية للمعتقلين، وعدا عن معاناة الموت فإن معاناة الجوع والتعذيب الممنهج واغتصاب النساء لا تقل إيلاماً للإنسانية، وجرائمها موجعة ايضاً».وبشأن تناول وسائل الإعلام خبر إطلاق سراح 27 سجيناً لبنانياً كانوا في سجن تدمر وبينهم المسؤول في حزب الكتائب اللبنانية بطرس خوند الذي كان خُطف على يد المخابرات السورية في لبنان في سبتمبر 1992، وتردّد أن بعضهم نُقل إلى تركيا، إلا أن أي مؤشرات على حصول ذلك لم يجر تأكيدها أو دحضها من السلطات اللبنانية الرسمية، في حين تنفي دمشق في الأساس وجود أي معتقلين لبنانيين لديها على عكس تأكيد جمعيات محلية تعنى بهذا الملف القديم - الجديد أن هناك 628 لبنانياً معتقَلين لم يتم الكشف عن مصيرهم حتى الآن.وفي هذا المجال اكد رئيس جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية علي بو دهن، لــ «الراي» أن الأهالي «لم يلمسوا أي نوع من الصدق من الدولة السورية أو (داعش) بخصوص ما تردّد عن إطلاق سراح 27 لبنانياً بينهم 5 نصارى كما جاء في الخبر، وقد تبين أن لا شيء مما قيل صحيح، فداعش دمّر السجن، لكن اللافت تصريح السفير السوري في لبنان علي عبد الكريم علي الذي قال إن الدولة السورية ليست غبية لترك المساجين قبل انسحابها التكتيكي من تدمر».وعليه، طالب أبو دهن السفير السوري بـ «الاستجابة لمطلب الأهالي في الكشف عن أسماء المعتقلين في تدمر والذين تم نقلهم إلى سجون أخرى»، كما دعا وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل إلى «الطلب من علي تأكيد أو نفي نقل لبنانيين إلى سجون أخرى وكشف مصيرهم».وأوضح «ان كل ما يتردد عن سجن تدمر من أخبار يؤكد أن (داعش) دخل إليه ولم يكن هناك معتقلون، وعلى الدولة اللبنانية الاستفسار عبر وسطاء أو (عفاريت) حول حقيقة ما يقال والمطالبة بأبنائها المعتقلين في سورية، سواء كانوا مسيحيين أم مسلمين، وخصوصاً ان الرزق السائب يعلّم الناس الحرام».وفي تقديره «أن (داعش) دمّر سجن تدمر بأمر من النظام السوري لإخفاء معالم المقابر الجماعية الموجودة بكثرة تحت مبنى السجن وإلى يمينه وشماله حيث كان يرمي بجثث الذين يجري إعدامهم أو يموتون تحت التعذيب، وكنا نحن داخل السجن نشتمّ رائحة هذه الجثث والموت اليومي المخيِّم في المكان. ولذلك لا بد من المطالبة الرسمية عبر الصليب الأحمر الدولي والمنظمات الحقوقية والإنسانية بالكشف عن حقيقة ادعاءات النظام وداعش فيما يتعلق بأوضاع المعتقلين اللبنانيين في كل سورية، وهل هم أحياء أم أموات. فالأهالي يريدون الكشف عن مصيرهم أيا كانت النتائج».

العائد من «جهنم الحمراء»... «هنا تدمر»

يُذكر ان بو دهن سبق ان أصدر رواية تناول فيها تجربة اعتقاله في السجون السورية لمدة 13 سنة، من بينها خمس سنوات أمضاها في سجن تدمر، تحت عنوان «عائد من جهنم - ذكريات من تدمر وإخوانه».ويورد في هذه الرواية خطاب الضابط المسؤول عن سجن تدمر والذي يلخص مأساة المعتقلين، وفيه: «أيها… حللتم أهلاً وسهلاً ونزلتم في مثواكم الأخير، هنا لا ينتظركم شيء سوى الموت البطيء كالكلاب والبهائم، هنا جهنم الحمراء التي حدثتكم عنها الأديان والرسالات. لا رحمة هنا ترجونها ولا رأفة، هنا تدمر».ويسمي أبو دهن المعتقل في تدمر بــ «جهنم الحمراء»: «فعند الاستقبال يصطف نحو عشرين شرطياً بكامل العتاد: كابلات عريضة، قضبان حديد وكل ما يؤلم»، مؤكدا «لم نعد نعلم أي صنف من المخلوقات نحن. كنت أنزف من جرح فوق عيني ومن رأسي، وقد كسر أنفي… كل ذلك بأقل من خمس دقائق. وصوت يدوي: مين…، إنت ولا!! ولك حيوان أنت. وكل واحد منا يظن أنه هو الحيوان المقصود».ويصف زنزاته بالاشارة إلى أنها غرفة قذرة بقياس 5.75 ×14، مزوّدة بجورتي حمام مع بعض الغالونات لتعبئة المياه «وفي الأرض وعلى الجدران آثار للرصاص والدماء، هذا المهجع كان ساحة مجزرة بحق (الاخوان المسلمين) العام 1980».ويروي نقلا عن الذين سَلِموا من المجزرة، من أعضاء حزب البعث العراقي فصول ما شاهدوه من شاحنات تنقل الجثث إلى مقابر جماعية.ويلفت إلى أن «1989 كانت سنة الموت في تدمر بسبب العذاب الشديد والضرب المبرح حتى الموت عمداً، وكانت إدارة السجن آنذاك في عهدة العميد المجرم غازي الجهني»، مشيراً إلى أنه «اذا أراد الرقيب أن يتسلى، يأمر احد السجناء بأن يقلد الحمار كيف يتمرّغ على الارض، وإذا رفض يُعاقَب. ومرة طلب من مجنون كان معنا أن يقلد غوار الطوشي فقلده جيداً، وقبل أن ينتهي قال المقلّد بلسان غوار: يا حافظ ليش معتقل هالشباب استحي على شرفك واخلي سبيلهم».ويصف في كتابه أيضاً حادثة وفاة المعتقل اللبناني حسن هوشر قائلاً: «أُفطرنا شايا باردا وملعقة من اللبنة وبرغلا باردا، وأصيب - حسن - بإسهال شديد وبعد ساعتين تبع الإسهال إعياء مريع. عند الثانية صباحاً اشتدّ عليه المرض، فقرع المسؤول الصحي الباب مطالباً بحضور طبيب مختص. وبعد محاولة إسعافه بحسب خبرته القليلة، وهو سجين متطوع في الصليب الأحمر اللبناني، لم يعرف كيف يعالج الموقف. بقي حسن ينازع، وصلّينا له جميعا باكين عليه وعلينا، الى ان فارق الحياة».ويشير إلى أنه «في فترة التجديد للرئيس الراحل حافظ الأسد العام 1991، ابتدع مدير سجن تدمر وسيلة جديدة كي يحصّن مركزه بأن أمَر سجناء الرأي السياسي في السجن بأن يكتبوا تأييداً ومبايعة للرئيس الأسد بدمهم الحي، وفعلوا ذلك مرغَمين».