في تفسير سلوك النعامة أقوال، الشائع منها أن النعامة حين تشعر بالخطر تصنع حفرة صغيرة في الأرض وتضع رأسها فيها فيختفي العالم ويزول الخطر. من هنا جاء القول السيار «لا تدفن رأسك مثل النعامة» إشارة إلى من يهرب من المشكلات أو يظن انتهاءها لمجرد أنه لا يراها. في صبانا كنا نرتاد قطارات الدرجة الثالثة مع شباب من العائلة لنقضي أيام الأعياد في القاهرة القريبة من مدينتنا، وحين يمر محصل القطار يحلو للشباب التلاعب بالأصغر سنا فينا، حين يقنعونه بأن يحاول التهرب من دفع ثمن التذكرة بطريقة النعامة، فكان الصغير يحاول الاختفاء بأن يضع يديه على وجهه وبذلك تنتهي المشكلة في وعيه، وبعد أن يمر محصل التذاكر يرفع يديه مقتنعا بنجاح حيلته التي أدت إلى اختفاء المحصل والقطار، بل والعالم كله. طريقة النعامة في حل المشكلات إذن تعبير عن وعي طفولي غير قادر على مواجهة مشكلاته، ويعتقد اعتقادا جازما أن اختفاء المشكلة من أمام عينيه يعني انتهاءها، ولذلك يصرف صاحب هذا الوعي الجهد كله في نفي المشكلة، ومحاولة إقناع نفسه ومن حوله بأنها غير موجودة من الأساس.المعروف والمخزي أن الثقافة العربية قد اعتمدت لعقود طويلة ثقيلة على طريقة النعامة السابقة في حل مشكلاتها، وهو ما يعني أن المشكلات لم تحل، وإنما دفعت دفعا بعيدا عن أعين الوعي، لتبقى تحت سطح المجتمعات العربية نشطة مدمرة تمارس تخريبا صامتا. من ذلك مشكلة الطائفية التي تم إشعالها وتصعيدها إلى السطح منذ بدايات التدخل الأميركي في المنطقة بحسب تشومسكي، الذي يرى ـ في حوار معه متلفز ومترجم على اليوتيوب ـ أن الطائفية موجودة في الثقافات العربية لكنها كانت في حالة خمول وكمون أدى إلى إمكان تآكلها من الداخل تدريجيا، حتى أتى التدخل الأميركي ليشعل جذوتها ويجعل منها أداة لتحقيق مصالح الغرب وأميركا بالتحديد.المزعج في الأمر أننا طول التاريخ الحديث نلعب دور المفعول به وفيه، دون أن يكون لنا أي دور في التحكم بمصائرنا، باستثناء الفترة الناصرية التي أشعلت الحلم القومي وحاولت أن تناطح القوى الاستعمارية الكبرى. المفعولية هنا ليست قائمة على التبعية السياسية والاقتصادية وحدها، بل هي مؤسسة على قاعدة مرعبة من الخمول العقلي والتفكير الأسطوري، وكلاهما يتجلى في طريقة النعامة السابقة، حيث ننفي مشكلات الجهل والفقر وصعود الطائفية، ونبذل كما مذهلا من الوقت والجهد والمال في مقاومة التحديث والوعي العلمي والدولة المدنية وتحديد مساحات حرية الفرد وعلاقته بالدولة وبالمجتمع وبمن يختلفون معه. تأتي حوادث الإرهاب الطائفي الأخيرة ضد مساجد الشيعة في المملكة العربية السعودية تتويجا لمنهج الهروب الأسطوري من المشكلات، ونفيها وادعاء عكسها. المرض يجد أصوله غالبا ـ لمن أراد أن يبدأ العلاج ـ في غياب الأطر المنظمة لعلاقات الأفراد في المجتمعات العربية، وعدم الإيمان بالقوانين الوضعية التي تفهم الواقع من خلال تحليل علمي تاريخي، وتحديد النطاقين العام والخاص ووضع الحدود الصوارم لتطلعات الأفراد والجماعات الساعية نحو امتلاك سلطات مطلقة في مواجهة المختلفين معهم.نحن في مفترق طرق غاية في الخطورة: فإما التحرك السريع الذي يباغت العالم كله نحو دول مدنية قائمة على المساواة الكاملة بين أفرادها على أساس المواطنة وحدها، ما يسمح للجميع بممارسة اعتقاداتهم بأمان وبلا تطاول، أو الاحتراب الطائفي الذي يلوح شبحه في الأفق واضحا، والذي سينهك الجميع ويسيل دماءنا رخيصة، ويمنح ثروات المنطقة ثمرة سهلة للقوى العالمية التي لن يمسها من نزيفنا شيء. يقوم النزاع الدموي المضحك الذي يهدد المنطقة العربية كلها على فكرة مرعبة في عبثيتها وهي: ليس من حق أحد أن يختلف معي، فإما أن يؤمن الجميع بما أراه أنا صحيحا، أو فالجميع أعدائي الذين يحل لي قتلهم، عليك أن تكون نسخة مني وإلا اعتبرتك تهديدا لحياتي وسعيت لإنهاء وجودك بلا رحمة.وبالعودة للنعامة المظلومة معنا، فقد أثبت العلم أنها لا تخفي رأسها في الرمال خوفا ونفيا للمشكلة كذبا، بل إنها تصنع ذلك لأحد سببين؛ الأول أنها تحفر حفرة صغيرة تضع فيها بيضتها، وتدخل رأسها من حين لآخر كي تطمئن عليها. والسبب الثاني أن النعامة، التي تعاني ضعف النظر، تضع أذنها في الحفرة أو بجوار الأرض لتتسمع أصوات الخطر، لأن انتقال ذبذبات الصوت في المواد الصلبة أسرع وأوضح منه في الهواء. النعامة إذن أفضل حالا منا؛ إنها تتبع فطرتها التي تقوم على حقائق العلم، ونحن نحكم هلاوسنا التي تنافي العقل والعلم جميعا.