امتار قليلة تفصل بين الجنود الكوريين الجنوبيين والشماليين على الحدود بين شطري شبه الجزيرة المقسمة منذ 70 عاما، حيث ما زال هؤلاء يصوبون السلاح الى بعضهم البعض منذ نهاية الحرب الكورية في العام 1953، وكأن الهدنة التي انهت الحرب التي أوقعت مليونا و700 الف قتيل تم توقيعها أمس فقط. وكأن القتال سيستأنف غدا.هذه الامتار القليلة تختصر اكثر النزاعات شراسة في منطقة جنوب شرق اسيا. صراع يعتبر من بقايا الحرب الباردة المتجددة، ولكنه ايضا مفتوح على منافسات كبيرة، أطرافها معظم القوى العالمية والاقليمية الكبرى. فهناك ينافس الأميركيون كلا من الصينيين والروس وهناك ايضا تتنافس اليابان مع الصين وروسيا، وكوريا الجنوبية مع اليابان بسبب ارث الاستعمار الياباني لشبه الجزيرة، ولا سيما قضية الاستعباد الجنسي لنساء كوريا خلال تلك الحقبة، وهناك ايضا عشرات الصراعات الحدودية البحرية على جزر أو حدود مائية. وما يؤشر على شدة تعقيد هذه الصراعات، هو ان احدها يجمع بين عدوين لدودين كالولايات المتحدة وفيتنام ضد الصين، ولو موضوعيا.«الراي» عاينت ميدانيا المنطقة المنزوعة السلاح بين الكوريتين، خلال جولة نظمتها جمعية الصحافيين الكورية الجنوبية بالتعاون مع القوى العسكرية المشرفة على تلك المنطقة، على هامش «المؤتمر العالمي للصحافيين - كوريا الجنوبية 2015» الذي نظمته الجمعية في سيول ومدن أخرى بين 12 و18 ابريل الجاري، بمشاركة 100 صحافي من 60 بلدا.الرحلة الى هذه المنطقة من سيول ليست طويلة، نحو ساعة بالسيارة، وهذا ربما ما يفسر التوتر الكوري الجنوبي الدائم، خصوصا ان المدينة التي تشكل مركزا ماليا وصناعيا مهما في اسيا والعالم، كانت قد احتلت مرتين ودمرت بالكامل خلال تلك الحرب التي ما زالت قائمة من الناحية التقنية، ولا تحتاج سوى لظروف مؤاتية وشرارة صغيرة حتى تعاود الاشتعال وتصبح ربما حربا بالسلاح النووي، لا سيما وان مستوى التوتر ازداد مع تسلم كيم جونغ أون الحكم.النصف الثاني من الطريق بين سيول ذات العشرة ملايين نسمة والمنطقة المنزوعة السلاح يكاد يكون خاليا تماما، اذ تختفي هناك المباني السكنية العالية والمجمعات التجارية وحركة المرور الا من بعض السيارات والحافلات التي تنقل زائرين للمنطقة الحدودية، وهي منطقة مسيجة في غالبيتها وسياجها مزود بتقنيات مراقبة مثل الكاميرات والكشافات والأبراج، بما يشير الى طبيعتها كواحدة من اكثر المناطق العسكرية الاستراتيجية خطورة في العالم، لا سيما وان 72 ألف جندي اميركي ينتشرون في كوريا الجنوبية مع ترسانة من الاسلحة الاستراتيجية ضمن 3 اطر هي «القوات الاميركية في كوريا» و«القوات المشتركة الاميركية الكورية الجنوبية» و«قوة الأمم المتحدة».هناك حيث يلتقي نهرا الهان وايمجين، تتصدر الدبابات وشاحنات «الريو» المحملة بالجنود المشهد وكأنها عائدة للتو من الجبهة او ذاهبة اليها.مع ذلك لا تخلو هذه المنطقة العسكرية من مظاهر سياحية، وكأن المشرفين عليها، يريدون استخدام هذه «السياحة الحربية» في اطار الدعاية السياسية التي هي جزء من الحرب، وقد تفي ببعض اغراضها، بلا اطلاق طلقة واحدة من الجنوب، في حين تتولى عمليات اطلاق الصواريخ الحية بين الحين والاخر والحوادث التي توقع قتلى في بعض الاحيان، امر الدعاية السياسية من الجانب الشمالي.فمشهد الحافلات التي تجلب السياح او تلامذة المدارس الى المنطقة ليس نادرا ابدا، ولا هو نادر وجود محلات بيع الهدايا التذكارية التي تتعلق خصوصا بالحرب، وبينها، بل تطغى عليها، الثياب العسكرية للاطفال، وذلك رغم الاجراءات الخاصة التي يتطلبها الدخول الى المنطقة، ومن بينها المرافقة العسكرية للحافلات، من قبل الجنود الاميركيين والكوريين الجنوبيين، ولو تحت عنوان الامم المتحدة. فالحافلات التي تدخل الى المنطقة المنزوعة السلاح هي حصرا حافلات الامم المتحدة، ويقودها عسكريون، كما يتولى شرح المعالم الموجودة فيها والاحداث التي شهدتها، عسكريون لا يفوتهم اتهام الشمال بالدعاية السياسية، رغم ان عملهم هم هو ذلك بضبط.المنطقة المنزوعة السلاح التي يبلغ طولها 300 كيلومتر وعرضها اربعة كيلومترات، اثنان من كل جانب، تحولت عبر السنوات الى مرتع للحيوانات المفترسة والوحوش الكاسرة لقلة وجود البشر فيها، ولا توجد فيها سوى قريتين، واحدة للجنوب وتسمى بان مون جوم وثانية للشمال وتسمى كيونغ دونغ وليس هناك اي اتصالات بينهما.ويقول المشرفون على الرحلة ان القرية الشمالية ليس فيها اي ساكن وقد اقيمت للدعاية السياسية فقط. اما الجنوبية فيسكنها 35 الف شخص يخضعون لاجراءات خاصة، فالمرأة يتعين عليها مغادرة القرية اذا تزوجت رجلا من خارجها، في حين ان الرجل يستطيع اسكان زوجته في القرية اذا تزوج من خارجها، كما ان الرجال معفيون من الخدمة العسكرية، والسكان لا يدفعون ضرائب، ولهم تسهيلات خاصة للدخول والخروج الى القرية.ويطبق في القرية حظر تجول بين منتصف الليل وشروق الشمس، ويضع الكوريون الجنوبيون على جهتهم علما على سارية طولها 100 متر، يقابله الشماليون بعلم على سارية طولها 160 مترا، وهو اعلى علم في العالم. وتقع كيونغ دونغ بالقرب من مدينة كيسونغ، وهي ثاني مدن كورية الشمالية بعد بيونغ يانغ وتستضيف المصنع الذي يحمل اسمها وتديره 123 شركة كورية جنوبية وتشغل فيه 53 ألف عامل كوري شمالي.ويتهم المشرفون على الرحلة كوريا الشمالية بارتكاب 3000 انتهاك للهدنة منذ توقيعها، على ان اخطرها هو ما يعرف بـ «حادث الشجرة» الذي وقع في 18 ابريل 1976، عندما هاجم جندي كوري شمالي جنودا اميركيين وكوريين جنوبيين بفأس وقتل 2 منهم بينهما الكابتن الأميركي بونيفاس، اثناء عملية تقليم شجرة حدودية كانت تحجب الرؤية بين برجي مراقبة على الحدود من الجهة الجنوبية. ويقول الشمال ان الشجرة تقع في اراضيه. وبعد ذلك، شنت القوات الأميركية والكورية الجنوبية عملية عسكرية لقطع الشجرة هي الاكثر كلفة من نوعها في التاريخ، اذ جرى خلالها استنفار الاسلحة النووية على طائرات «بي 52». ويقول الجانب الجنوبي ان الهجوم وقع رغم انه ابلغ الشمالي مسبقا بنيته تقليم الشجرة.لكن الخوف واضح في كوريا الجنوبية من استفزاز الشمال بحيث يوصي المشرفون على الرحلات الزائرين بعدم ارتداء الثياب القصيرة او الاشارة باليد الى جهة الشمال حتى لا يظن الجنود الشماليون انه يجري الاستهزاء بهم.الامر الاكثر اثارة على الخط الحدودي مباشرة، هو غرفة الاجتماعات التابعة للامم المتحدة وهي غرفة لا يزيد طولها عن ستة امتار فيها بابان واحد يفتح على الشمال واخر على الجنوب وطاولة اجتماعات نصفها في الجنوب ونصفها الاخر في الشمال. عندما ياتي الزوار من الجنوب يكون باب الشمال مغلقا، وعندما ياتي الزوار من الشمال، وهم في الغالب وفود رسمية من دول حليفة يكون، باب الجنوب مغلقا. ولا يمكن رؤية سوى جندي شمالي واحد خارج مبنى للشمال مباشرة عند الحدود وهو يظهر ويختفي بين حين واخر، في حين ان هناك سبعة جنود جنوبيين يقفون كالتماثيل من دون اي حراك، ظهورهم الى الجنوب ووجوههم الى الشمال.الوحدة بين الكوريتين حلم يريد الجنوبيون تحقيقه على الطريقة الألمانية، اي ان يستوعبوا هم الجانب الشمالي ويضموه اليهم، لكن سياسيي الجنوب يدركون ان هذا ليس سهل التحقيق بل يشعرون في هذه الأيام انه اصبح اكثر ابتعادا بعد تسلم كيم جونغ اون الحكم، ومع تزايد اجواء المنافسة في المنطقة ولا سيما بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا اللتين تعتبران عرابتي النظام في كوريا الشمالية، خصوصا ان الصعود الصيني السريع في العالم قد يعني خسارة هذا الحلم. وقال رئيس الجمعية الوطنية الكورية الجنوبية (البرلمان) جونغ أوي هوا لـ «الراي» ان «الكوريين عائلة واحدة، فأنا اهل زوجتي من كوريا الشمالية، وليس من الطبيعي ان يبقى البلد مقسما. ونحن نحاول منذ 70 سنة تحقيق الوحدة».وعما اذا كان حلم الوحدة لم يعد سهل المنال، اوضح ان «الامر قد يبدو كذلك للخارج، لكن بالنسبة الينا نحن الكوريين، الوحدة هي الطريق»، معتبرا ان «وحدة كوريا امر حاسم للسلام ليس في كوريا فقط وانما في كل منطقة جنوب شرق اسيا، وتحقيقها يفتح الطريق لحل المسألة النووية الكورية الشمالية».لكن نائب وزير الخارجية الكوري الجنوبي تشو تاي يول كان اكثر تشاؤما، اذ قال ان ديبلوماسية بلاده تواجه تحديات حاليا لان الدول الرئيسية في جنوب شرق اسيا تتعامل مع بعضها بعدم ثقة، وتعمل وفق استراتيجيات وحسابات تستهدف تعزيز قوتها وسط تغير الديناميات في المنطقة.واضاف ان تغيرات بنوية جيوسياسية تحصل في المنطقة حاليا، وتتصدر الصين هذه التغييرات مستندة الى تزايد ثقتها بنفسها وقوتها الاقتصادية، بحيث انها لم تعد تنتظر الوقت الملائم لاتخاذ خطواتها، بل اصبحت تعتمد سياسة اكثر نشاطا وتقوم على المبادرة من جانبها. الوحدة لا تواجه تحديات خارجية فقط، بل داخلية ايضا، فجيل الشباب اصبح يشكك في فوائدها عليه وخصوصا اذا جرت المقارنة مع ألمانيا التي يريدها السياسيون نموذجا لوحدة بلادهم. ففي حالة المانيا كان الفارق في الدخل الفردي بين الشرق والغرب قبل الوحدة ثلاثة اضعاف في حين انه في حالة كوريا 28 ضعفا، كما ان سكان ألمانيا الغربية الـ 50 مليونا كان يقابلهم فقط 5 ملايين ألماني شرقي، في حين ان سكان كوريا الجنوبية البالغ عددهم 50 مليونا ايضا يقابلهم 23 مليون كوري شمالي، ما يجعل هؤلاء الشباب يعتقدون ان الوحدة ستكون على حساب رفاهيتهم. لكن الذي يدركه سياسيو الجنوب ويعملون عليه، ولا يشعر به الشباب، هو ان حلم الوحدة الهارب حتى الان، متى ما تحقق، سيمثل انتصارا لهم وللتحالف الذي ينتمون اليه لا يقدر بثمن.