قبل الثورات العربية بأعوام.كنت أركب تاكسياً بأحد العواصم العربية. مررنا بطريق طويل مزدحم بجنون، بلا ترتيب واعتبار لقواعد مرور، زادت شمس منتصف النهار ولهيبها فوضى الازدحام فحولت وجوه السائقين لكتل من غضب.قال سائق التاكسي: أسير بهذا الطريق يوميا ولم أشهده كئيبا قط. أكيد هناك شرطي يقف لتنظيم المرور.سألته: كيف يقف شرطي وتسود الفوضى ؟فقال: أقسم أن هناك شرطيا.وبعد وقت طويل اقتربنا من الميدان الفاصل بين الشوارع الأربعة العالقة فرأينا شرطيا يجهد بتنظيم المرور دون فائدة.قال لي منتصرا: قلت لك هناك شرطي. كلنا نمر من هنا يوميا دون التزام بقواعد، لكننا (فاهمين على بعض) لسنا بحاجة لشرطي يفرض نظاما لا يليق بنا. انظري للفوضى التي حدثت بسبب النظام الجديد.. لن نخرج قبل ساعات.زاد الخناق والشرطي يجهد ملوحا بكل الاتجاهات لكن الازدحام ازداد سوءا.قلت له: لأنكم غير معتادين على النظام، اذا وقف الشرطي يوميا ستتحول المسألة لفهم النظام أكثر من فهم بعضكم.نظر لي من خلال المرآة بذهول محاولا التأكد أني على وعي بما أقول وأردف: ولما هذا الالتفاف؟ ان كانت فوضانا منظمة فلِمَا نحن بحاجة لتغيير ؟ على العكس، الفوضى المرتبة التي نسير وفقها تعكس إنسانيتنا وروحانيتنا تجاه بعضنا. وصاحب البزة المرورية يريد إحلال مشاعر الكراهية عوضا عن ذلك، انظري لكمية الحنق والغضب التي حلت بوقوفه.ان كنا نسير ( بعز وقت الذروة ) دون خلافات، تحدث بعض الاختناقات لكنها مقبولة، فِلمَا نعيق المرور كل هذه الساعات ؟كانت تلك أول مرة أستمع فيها لشخص يحكي عن فوضى تصنعها الجماهير عن حب.بعد أكثر من ساعة ونصف لم نتحرك بها سوى بضع خطوات شعرت بملل، أما هو فكاد يلعن البطن التي أنجبته. شرد قائلا:- آآآه يا ناس. الله يرحم الاستعمار. سقا الله واحنا (مضبوبين) تحت الاستعمار.وكانت تلك أول مرة أسمع أحدا يترحم على أيام الاستعمار.مر على الحادثة زمن، انهارت به أنظمة وجاءت فوضى ليست من صنع الجماهير المحبة التي حكى عنها السائق،إنما فوضى تقطيع أوصال وذوبان حضارات.ولم أتمكن أبدا من نسيان ترحمه على الاستعمار، واستخدامه لكلمة (مضبوبين) وكأن الاستعمار البغيض كان ساترا لعيوبنا وفضائحنا وقبائحنا…قاسي بل مؤلم ما أكتب، لكني أفكر بالفارق بين الدول العربية قبل الاستعمار وبعده. ثارت الشعوب على الاستعمار وأتت بأنظمة الحرية، ثم ثاروا على الأنظمة الثورية وأتوا بجماعات الإرهاب المسلح…والقادم ما زال مجهولا.لم يهنأ شارع عربي منذ الاستقلالات المجيدة وحتى اليوم.- من قتل المهاتما غاندي ؟لم يقتله الانجليز الذين حاربهم حد العصيان والإضراب عن الطعام. لم يقتله السجن الانجليزي. لم تصبه طلقة من مستعمر.أما الطلقات الثلاث التي اخترقت عظام صدره النحيل فكانت من مسدس يمسك به هندي من نفس ملة غاندي الهندوسي. كان معترضا على توجهات غاندي النابذة للطائفية.قتله أبناء جلدته الذين أنهك جسده وعمره دفاعا عن قضيتهم، وكان سببا لتحرير الهند بأكملها.قتلته الهند.* كاتبة وإعلامية سعوديةnadinealbdear@gmail.com
مقالات
آهٍ يا زمن الاستعمار
11:23 ص