من المهم الإشارة إلى إن أدوات النقد المساهمة في تدعيم موقف الناقد من النص هي ما تملكه الناقدة المغربية زهور كرام، فهي تلم بالإجراءات الشكلانية والفنية التي أتاحتها لنا معطيات الفكر النقدي الحداثي من اشتغال على تقنيات السرد، والسيميولوجيا، التي تعد ضرورية في قراءة الأنواع والأشكال والقوالب، وانتقلت أيضا إلى ما بعد الحداثة لتسأل أسئلتها الذكية وتقارب النص. وبوجهة نظري هذا مهم، فبينما نحن كدارسي الأدب نهتم بكيف تم تقديم الأدب، نحن بحاجة ماسة إلى الابتعاد عن الوصف والتحليل البسيط وفقا لمعطيات اللغة السطحية، علينا الاهتمام بموضوع المدلول والبحث بعمق عن هذه القضايا التي لم تعد الطريقة الوصفية في الماضي كافية بل أصبحت بحاجة إلى أن تكون بين طرفي معطيات الحداثة وما بعد الحداثة، لتكون القراءة أكثر نضجا ووعيا ولتتجاوز الأخطاء التي وقعت فيها الحداثة وهي في طريقها لتأسيس منهجي مغاير للانطباعية.إضافة إلى هذا وذاك، فإن للإشكاليات الثقافية والنقدية حظ ونصيب في اهتمامها، فلا تتردد في الكتابة عما يعترض الساحة الثقافية من إشكاليات مستجدة، كقضية الرقابة في الوطن العربي، من مثل كتابها: «زهور كرام في ضيافة الرقابة» من خلال التجربة الإبداعية لليلى العثمان عام 2001، والذي يعكس لي أكثر من أمر:1- عدم انحصارها في قطب واحد من الاشتغال النقدي من خلال الكتابة عن جهود إبداعية أخرى في الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه، فكتابها عن الأديبة الكويتية ليلى العثمان وفي تلك الفترة هو تجسير للفجوات، وللقوالب الجاهزة والتنميطية تضع كل كاتب في دائرة قطرية واهتمامات معينة.2- تاريخ نشرها الكتاب يعكس الامتداد الزمني لعلاقتها مع الكتابة الإبداعية في الخليج مما يقارب حوالي خمسة عشرة عاما من الاهتمام النقدي، مع إنها لم تزر الكويت إلا في العام الماضي، وهو يعني اهتمامها بالفكرة وحضورها بالقوة قبل أن تتحقق العلاقة المباشرة بينها وبين من تكتب عنهم فعليا.3- وهذه النقطة من أهم النقاط بالنسبة لي، وهو جرأتها في تبني القضايا الخلافية والجدالية والدفاع عن وجهة نظرها بالفكر الرقابي عن كاتبة ليست من بلدها، ونظام ثقافي لا يشبه بتقليديته ومحافظته إلا بعض دول الجوار. كما يمثل شجاعة ورغبة صادقة في قول الحقيقة وتبني قضايا الهامش ورفض ثقافة التخاذل التي نعيشها الآن بكل تفاصيلها القاسية إلا من رحم ربي، ليس لبراجماتية معينة بل لنشر الفكر الإنساني المعتدل، وهذا مرتبط بالنقطة التالية.4- وهي تعني لي أيضا محاولة الحديث باسم من لا صوت له، أو لنكون أكثر دقة لمن صوته وحيد وضعيف ومشتت بفضاء من التغييب الذكوري المهيمن، وبجسد رقابي متماسك ظاهريا يرهق من يحاول رميه بحصى المعرفة. لذا هي تتبنى صوت المرأة العربية برؤية ناضجة، فيما تكون المرأة الخليجية بمواجهة مباشرة من الجسد الرقابي ترهقها كثيرا، وهذا لا ينفي تماما وجود الأصوات المناضلة والجريئة في الخليج إبان ذلك الوقت، مثل ليلى العثمان وعالية شعيب. فكان فعل النضال الإنساني والدفاع عن الجماعة المقموعة هو الخيط الفكري الرابط لأجزاء هذه الدراسة الموجهة. رغم جمالية طرح فكرة الكتاب إلا إنه لفت نظري في هذه المقاربة المكثفة جدا، رأي وددت عرضه ونقاشه وهو رأيها حول طبيعة الفعل الإبداعي التي تجعل من فعل المراقبة فعلا غير منطقي، إذ تقول:«الإبداع بهذا، فعل حر.والحرية هنا، بمعنى أن الإبداع يتشيد خارج القيود، والأسوار. ومن ثمة، يصعب على منتجه أن يحدد مساره أو يتحكم في منطقه.إنه صرخة.تنفجر لتملأ البياض لغة، والصمت بوحا، وتحيل العالم بكامله إلى سؤال يخرج الأشياء من رتابتها. من هنا، تأتي استحالة المراقبة، وصعوبة المصادرة». (ص 17)رغم اقتناعي بالمبدأ السابق، إلا إنني أقبل به بشكل جزئي وأولي لأني أرى المبدع يكتب بداية في «زمن الإبداع» بشكل لا واعي حر رافض أي قيود، ولكنه في مرحلة لاحقة يراجع نصه ويعدله ويطوره، ولا يغير شيئا يقبل به عقله الواعي ويوافق عليه، فالخلق الحر يمر بمراحل لاحقة من التعديل، إضافة إلى أن العمل الإبداعي ينضبط في مشروع إبداعي ذي ملامح وقسمات فكرية تحدد موقف هذا المبدع من الوجود، وهذا بالتأكيد يمرره الكاتب واعيا إلى تجربته. فقد يكون المجاز اللغوي حرا بالوصف والاستعارة والتشبيه، أو باختيار بعض أجزاء الحكاية، لكن هذا لا ينفي إن المحصلة الكلية من النص الإبداعي واعية، ولا أتصور أن يكتب مبدع كتابا إلا بعد عمليات من القراءة والتعديل المستمر. وتقول في موضع آخر عن البناء المعماري للنص:«كل شيء يتحرك ليبني معمارا متخيلا... عالما... لا يعيه المبدع... لا ينشغل بتفاصيله... لأنه (المبدع) منذ انصهاره في زمن الإبداع، وركوبه منطق الخيال أصبح غير معني بضوابط البناء الواقعي، وغير محكوم بقوانين الواقع، وبأعرافه». (ص:14)هذا التداعي الحر اللاوعي هو بالنسبة لي أمر جزئي وأولي، تتبعه عمليات من الادراك الواعي الذي يمرر ما يوافق عليه من أفكار وصور. إلا إذا كان المبدع لا يراجع نصه إلا بالطريقة غير الواعية ذاتها. وما دام الإبداع فعل لا واعي فكيف نقول إن الإبداع قادر على تغيير رؤى الناس، إذا كان اللاوعي هو المتحكم الوحيد فيما يقرأه المتلقي. من ثم إن اللاوعي هو محصلة الرغبات المكبوتة والدوافع الغريزية والذكريات المنسية نتيجة لما هو مغيب من قبل الوعي، فهي بالنهاية منتج من منتجات العقل الواعي، فالعلاقة الطبيعية بينهما تأتي من خلال التكامل وليس الفصل الحاد.وبعد، لا أختلف أبدا إن الإبداع يحتاج لحرية تمارس بشكل واعي للتعبير عن قضايا الوجود المختلفة المتراوحة بين القضايا الشخصية والاجتماعية، والسياسية. ما أود قوله هنا إنه لابد أن يكون الإبداع مملكة حرة وواعية بنفس الوقت في عرض المكونات الدينية والاجتماعية والثقافية الجمعية والفردية، ولا يحق لأي مؤسسة أن تحاسب المبدع لأنه يمارس التخييل ولا يعرض لعالم حقيقي بل عالم تخييلي. كما إن المؤسسة الرقابية المؤسسة من الفكر المستنير المعتدل قد يحق لها التدخل فقط عندما يكون المبدع تجاوز البوح عن الأفكار المقموعة إلى حد استفزاز من أجل الاستفزاز وممارسة الحرية من أجل الحرية، فالكاتب غير المسؤول يقود القراء لمتاهات معرفية وأخلاقية تصب في حيز اللاعقلانية. والدليل على ما أقول إن د. كرام في نصها الإبداعي الأخير «غيثة تقطف القمر» هو بوجهة نظري محصلة لعملية إبداعية واعية جدا، أخذت من الرمز وسيطا إبداعيا في التعبير عن مضامين الفساد الاجتماعي، بالإضافة إلى الاشتغال اللغوي الواعي المتجلي في العمل، والذي توقفت أمامه في قراءة أخرى.من خلال ما تم عرضه، أرى إن الدكتورة زهور كرام اسم نقدي مهم بحاجة منا إلى دراسات معمقة لفهم طبيعة الإنجازات وتحقيق موجة ثانية من النقد، نقد النقد، عرض الجهود النقدية ورؤانا النقدية حولها، فنحن وفق الوضع الحالي بالكاد نتحصل على كتابات نقدية أولية على النصوص الإبداعية، من دون أن تكون هناك قراءات ترد وتعلق على ما تمت كتابته.- الدكتورة زهور كرام، «في ضيافة الرقابة»، منشورات الزمن، الطبعة الأولى 2001م.
محليات - ثقافة
الإبداع بين الوعي واللاوعي
01:05 ص