| بقلم مطلق عبدالله الجريد |تختلف أوزان البشر من شخص إلى آخر، ولا أعني بالوزن هنا ما يزنه جسم الإنسان بالكيلوغرامات بل وزن الشخص في الحياة ومدى تأثيره على حياة الآخرين، وتأثير فقدانه على من حوله.دعوني أذكر لكم قصة تبين معنى كلامي:كان ماكس خارجاً من مدرسته نهاية اليوم الدراسي الأخير في أحد الأسابيع... قبل خروجه من البوابة الرئيسية رأى الطالب الجديد في المدرسة جون الذي تعثر على سلالم المدرسة وسقط وتبعثرت كتبه في أرجاء الممر، فذهب إليه مسرعاً وساعده في لملمة كتبه المتناثرة وحمل حقيبته وبادره بالقول: «مرحباً، أنا ماكس، لا تنزعج من هذا الموقف، فلقد سقطت من هذا السلم عشرات المرات، وقمت مسرعاً كي لا يراني أحد!» فضحكا ورد عليه جون:«أهلاً ماكس، تشرفت بمعرفتك»، وبعد أن خرجا من المدرسة تبادلا أطراف الحديث إلى أن وصلا إلى بيت«جون»، فقال لماكس: «هل تودُّ الدخول لمشاهدة التلفاز ولعب بعض ألعاب الفيديو؟»... رد ماكس:«بالطبع... لم لا؟!».مرت الأيام والسنون، وأصبح ماكس وجون أعز صديقين، وفي حفل التخرج في الجامعة التي ارتاداها معاً، وقد حصل جون على امتياز مع مرتبة الشرف، وكان ماكس أقل منه بقليل... قبل أن يصعدا المسرح للتكريم، همس جون في أذن زميله ماكس:«هل تعلم يا صديقي لمن يرجع الفضل في وصولي إلى هذا المكان الآن؟ هل تعلم من ذاك الشخص الذي أثر فيَّ وجعلني أطور من نفسي؟»... رد عليه ماكس متسائلاً:من هو؟.. قال:جون:«أنت يا ماكس»... ردماكس»بنبرة تعجب:«أنا؟ لابد أنك تمزح!»... قال جون :«هل تذكر ذاك اليوم الذي سقطت فيه كتبي على سلم المدرسة ونحن في المرحلة المتوسطة؟»... فقال:«نعم... أذكر، يوم تعرفت عليك»... فقال جون:«في ذلك اليوم الجميل كانت سمائي مليئة بالغيوم السوداء والحزن، وبعد انتقالي إلى تلك المدرسة لم يكن لديَّ أصحاب سوى المتنمرين الذين كانوا يستهزئون بي؛ لأن والدي في السجن، وأمي تعمل ليلَ نهارَ لتوفير الأكل لي، فقررت أن أجمع كل كتبي وأذهب إلى المنزل، وقمت بابتلاع كل الحبوب المُنوِّمة التي بالعلبة! لكن شاءت الأقدار، وكنت أنت يا ماكس هنالك.. بعثك الله عند السلم وغيَّرت حياتي إلى الأفضل! شكراً لك يا صديقي... أنا هنا الآن بفضلك... أنت الشخص المؤثر في حياتي! فشكراً لك».جمعة فيصلفي صباح يوم الجمعة الموافق 23/ 7/ 1971م وبالتحديد في مستشفى دار الشفاء، أبصر عبدالله الجريَّد ابنه الأول.. فاسماه فيصل ، كانت فرحة جميع أفراد العائلة لا توصف.يحكي بوفيصل قائلاً:«لم أفرح مثل فرحتي بمَقدِم (فيصل) في صباح ذلك اليوم الفضيل... لما انتهينا من إجراءات الولادة أخذناه مباشرة إلى منزلنا الكائن في منطقة القادسية ومشاعر الفرحة تعمُّ المنزل، والأقارب يزوروننا واحداً تلو الآخر ليروا طفلنا البكر ويهنئوننا بمقدمه... أخذ فيصل يكبر يوماً بعد يوم، وترى أم فيصل في عيونه راحتها بعد تعب الولادة والسهر... كان منذ نعومة أظافره حنونًا طيب القلب بارًّا بنا بالفطرة... كبر فيصل وكان متفوقًا في دراسته محبًّا للعلم مطلعاً عاشقاً للقراءة».رحلة عُمْرَةانتقل فيصل مع أسرته إلى منطقة الظهر عام 1984 وكان عمره آنذاك 13عاماً، كان يحلم بزيارة بيت الله الحرام منذ صغره، ويحكي لأقرانه وأهله عن أمنيته، إلى أن تحققت عام 1985.. ذهب ليؤدي فريضة العمرة مع أصدقائه... ودع فيصل والده ووالدته ودموعه في عينيه، خاف أن تسقط فتزيد أحزانهما بسفره الأول وبُعده عنهما في ذاك العمر... ودعته العائلة ومشاعر الخوف تخالط الفرح... إنها أول مرة يسافر فيها فيصل وهذه أول عمرة يؤديها في هذه السن.يقول بوفيصل :«سافر فيصل وتغمره مشاعره المشوشة سعيداً بذهابه لأداء العمرة حزيناً على ترك والديه... لبس إحرامه والابتسامة على وجهه ونبضات قلبه تتزايد من شدة الفرح...وصلوا إلى مكة سفراً بالسيارة... ترجل فيصل بخطوات متسارعة إلى الصحن ورفع ناظريه إلى الكعبة الشريفة والرهبة والفرح والدهشة تملأ قلبه وعقله... بعد أن أدى شعائر العمرة مع أصدقائه اتصل وطمأننا وقال: «يبه... أنا فيصل، الحمد لله اعتمرنا وخلصنا، كل أمورنا طيبة، سلم على أمي وإن شاء الله بعد يومين راح نرجع الديرة».وبعد انقضاء يومين... بعد دخول فيصل وأصدقاؤه حدود السالمي، لمح السفاري الأسود بانتظاره... بخطوات سريعة خطا إليه فرأى والده بوفيصل وخاله إبراهيم وصديق طفولته وخاله الأصغر مشعل، ألقى على الجمع التحية وبعد العناق ودموع الفرح تتساقط من عينيه ركب السيارة وتحركوا إلى منطقة الظهر... وصل فيصل إلى أحضان والدته، وقال لها:«يمه، الحمد لله اعتمرت ودعيت لكم كلكم»، وبذلك تحققت أمنيته، وأيقن فيصل أن كل شيء ممكن، ولكن بالإيمان بالله والمثابرة.باص16يحكي مشعل الصويتي (خال فيصل وصديق طفولته) فيقول:«منذ صغرنا ونحن نحب الاعتماد على أنفسنا، ولاحظت منذ أيام المراهقة روح القيادة في فيصل، كنّا نستقل باص المواصلات 16، ونذهب إلى سوق المباركية لنمشي ونستطلع ونرى الناس،وبعدها نذهب إلى سوق الحمام لنرى الحيوانات والطيور ونستمتع بأوقاتنا، وكان فيصل الذي يفكر ويخطط لهذا الأمور، كنَّا دائماً نذهب لنرى آخر الأفلام في سينما الأندلس آنذاك... كنت أنا أقرب أصدقائه... وكان هو الأقرب إليَّ».خالته أم سليمان تستذكر هي الأخرى تلك الأيام، فتقول:«حتى حين كنا نلعب في صغرنا، كان فيصل هو القائد الذي يخطط ونحن ننفذ».مشرف86التحق فيصل بثانوية صالح الشهاب بمنطقة مشرف، وكان يهوى الحياة العسكرية ويحلم بالانضمام للسلك العسكري... وفي يومٍ من الأيام تحقق حلم فيصل فبعد تخرجه مباشرةً في الثانوية العامة عام 1989، التحق بالدورة التأهيلية في الحرس الوطني كي يصبح ضابطاً مقاتلاً فيه،حيث كان يعشق التعب والعناء والعذاب النفسي في سبيل التخرج والانخراط في الحياة العسكرية.فيصل والعسكريةفي أول إجازة صيفية خلال الدورة، سافر فيصل إلى لندن«علاج في الخارج»مع شقيقته وأهله بتاريخ 19/ 7/ 1990، أثناء تواجدهم في لندن آنذاك كانت تهديدات العراق بغزو الكويت... غمرتهم مشاعر الخوف والحزن بعد أن أؤكد لهم ذاك الخبر... لم يستطع«فيصل»العودة إلى الكويت.يقول مشعل الصويتي:«لاحظت في فيصل الكرم منذ شبابه، لقد كان سخياً مع كل من نقابلهم في لندن، كان يكرمهم ولا يبخل على أحد بما يملك، كانت الابتسامة لا تفارق وجهه، كان - رحمه الله - يحب التعلم؛ حيث كان يدخل الاندجراوند ويتعلم على الخريطة ويحاول تعليمي ويحثني على التطوير من نفسي في اللغة الإنكليزية، وكنّا نزور بعض الأصدقاء... كانت عائلة بورقبة الكرام في منطقة اجورروود وكان فيصل مهتماً بالقضاء وفضولياً في أمور لم تكن تستهوينا في ذلك العمر، دائماً كنّا نتابع قناة سكاي نيوز الإخبارية وكلنا أمل أن نسمع أخباراً مفرحة عن بلدنا الحبيب، وعندما أعلن عن بدء الضربة الجوية، غمرتنا السعادة والفرح والتصفيق واستمررنا في متابعة الصواريخ حتى تم الإعلان عن تحرير الكويت».العودة إلى الكويتاستقلت عائلة فيصل أول طائرة عائدة من مطار هيثرو/ لندن إلى الكويت في ومنظر الدخان والآبار المحترقة يحزن فيصل ومن معه، التحق فيصل بعد عودته مباشرة في الجيش كمتطوع، فتم فرزه في موقع أرض المعارض في مشرف حيث كان المكان ممتلئاً بآليات الجيش العراقي المدحور، بعدها بفترة قصيرة قامت الجهات المختصة بإرسال الطلبة الضباط إلى جمهورية مصر العربية لاستكمال الدورة العسكرية، فتحملوا الغربة والبعد عن أهاليهم إلى أن أرسلت طلباً بإعادتهم لاستكمال الدورة على أرض الوطن.بعد فرحة العودة حان وقت الالتحاق بالدورة العسكرية، وكانت المفاجأة إعادتهم من البداية»سنة أولى«، بعدها سادت الطاقة السلبية ومشاعر الإحباط بينهم؛ لأن مشقة 3 سنوات ذهبت بلا معنى، إلا أن أقلية منهم لم يكسرهم هذا الخبر، فواصلوا ما بدؤوه وقرروا أن يستمروا في تحقيق هذا الحلم المراوغ، ومنهم الطالب ضابط/ فيصل عبدالله الجريد.إعادة الدورةعادت معاناة التعب والإرهاق والبعد عن الأهل، واستكملوا تلك الدورة المنعقدة في الشرطة،يقول العقيد متقاعد/ ناصر النصار:»لقد كانوا طلبة ضابط من الدفعة (22) الذين لم يتموا دورتهم في الكلية العسكرية في جمهورية مصر العربية، وذلك بسبب الغزو الغاشم على الكويت، حيث كان من المقرر ان يتدربوا في مدرسة الأغرار لمدة 6 أشهر، ومن ثم يلتحقوا بكلية الشرطة في الكويت لمدة 4 سنوات كي يتخرجوا ضباطاً في الحرس الوطني، ومن حسن حظي كنت أنا المسؤول والمشرف على دورتهم، وقد كانوا مجموعة من أكفأ رجال واجهتهم طيلة فترة خدمتي في مجال التدريب، وكان «فيصل» - رحمه الله - يمتاز عنهم بعدة صفات لمستها فيه خلال هذه المدة: احترام الآخرين، الضبط والربط، إطاعة الأوامر التي تصدر إليه من رؤسائه، التحلي بآداب تعكس تربية والديه له، كان ذا (كرزمة) تجعله محبوبًا من الآخرين... وبعد إتمام المدة المقررة لتدريبهم وتجهيزهم للالتحاق بالكلية، التحق فيصل رحمه الله وزملاؤه بكلية الشرطة، وكان ذلك في سنة 1992م إلى ان تخرجوا يوم الثلاثاء الموافق 21/ 5/ 1996م، وأصبح فيصل ملازماً في الحرس الوطني. يسترسل النصار في حديثة قائلاً:«شاءت الظروف أن يكون فيصل وزملاؤه الثلاثة من منتسبي مدرسة تدريب الأغرار في شعبة تدريب الأغرار التي كنت أرأسها في ذلك الوقت، وبدأت علاقتي مع فيصل - رحمة الله – تترسخ أكثر فأكثر، كان مخلصاً في عمله دؤوباً مكافحاً مثابراًحريصاً على الاجتهاد والتميز في عمله، وبسبب قربه مني في العمل كنت أرى الحب والإخلاص والولاء لوطنه الكويت من خلال حرصه على تأدية واجبه الملقى على عاتقك، بل كان يتقن ويحسن العمل على أكمل وجه.. فيصل - رحمه الله - كان متميزاً بين زملائه، يمتلك عقلاً متقداً، كان ذكاؤه مميزًا، كان يحب الإبداع والتطوير، كنت أستفيد من أفكاره الجديدة المتجددة، كان دائما يفكر كيف يطور نفسه حتى يطبق هذا التطوير في عمله... ما أكتبه عن أخي فيصل قليل من كثير ممَّا رأيته منه، وبحكم احتكاكي به في العمل، زادت العلاقة تأصلا أكثر فأكثر حتى أصبحت هذه العلاقة أكبر من أن تكون علاقة عمل فقط، لقد تطورت وأصبحت علاقة إخاء وزمالة وصداقة قوية داخل العمل وخارجه».الحلم الواقعتحقق حلم فيصل لكنه لم يتوقف عن تطوير ذاته وسعى بكل ما يملك ليصبح عسكريًّا وقائدًا من أفضل الضباط في الحرس الوطني، كان يستيقظ قبل أن يرن المنبه والنشاط يملأ عينيه.... يرتدي ملابسة العسكرية بفخر، ويذهب إلى عمله ويستقبل كل من يراه بابتسامة جميلة... عمل فيصل مع العديد من الضباط والقادة، ومنهم المدرب/ حمد فالح الميع الذي يقول عنه:«تعرفت على أخي فيصل الجريد أول ما تخرج من الكلية اعتقد كان ذلك سنة 96، وكان نعم الأخ والصديق والآمر؛ كان - رحمه الله تعالى - متواضعاً، وكان عملنا معه بالأخوة والصداقة، ما كانت تربطنا العسكرية فقط بل كان العمل معه ممتعًا جداً،وتقدر تقول إنه أفضل ضابط عملت معه، كان مخلصًا محبًّا لعمله... كان - رحمه الله - متقنًا لعمله مرتبًا شغله، حتى في العقوبات التي تصدر منه كان متساهلاً فيها، ويعطي فرصة للذي أمامه حتى يتعدل ويطور من نفسه، ما كان ليظلم أحدا، بل كان يعطي الفرص... كان محبوبًا من الجميع».تزوج فيصل وأنجب ثلاث بنات وولدا وحيدا رأى النور بعد وفاة والده بأربع أشهر... ابنه «فيصل فيصل الجريد»... لم يكتف «فيصل» ببره بوالديه، بل كان بارا بإخوانه، كان بمثابة الأب والصديق المحب الحنون لهم، جمع خلال مسيرته المهنية حب الكثيرين والسيرة العطرة الطيبة، أثنى عليه كل من حوله وكل من التقى به، حيث كان ناصراً للمظلوم مهما كان عمره ورتبته العسكرية، حتى الوافدين الذين عملوا في الحرس الوطني كانوا يحبونه ويحترمونه، وكان يبادلهم هذا الاحترام ويساعدهم بكل ما يملك... أكبر دليل على ذلك من حضر إلى المقبرة عند دفنه... جموع غفيرة من الناس من مختلف الأعمار والجنسيات والدول.توفي أخي العقيد الركن/ فيصل الجريد عن عمرٍ يناهز 42 عاماً، وخدمته العسكرية 24عاماً من العطاء والوفاء والاجتهاد في سبيل المهنة والوطن... واليوم تحلُّ علينا الذكرى الثانية لوفاته رحمه الله وطيَّب ثراه، وألهمنا على رحيله الصبر والسلوان... و(إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون).