«العقوق»... يالها من كلمة تحمل كل معاني القسوة وانعدام المروءة وفساد الفطرة... والعقوق في اللغة من «العق» وهو القطع... وفي الشرع: هو كل قول أو فعل يتأذى به الوالد من ولده مالم يكن شركاً أو معصية.ومعنى العقوق أن يؤذي الإنسان والديه أياً كان نوع هذا الأذى وحجمه «فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما».والعقوق كبيرة من أكبر الكبائر، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله «آلا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور».فلم يكن أمر الله تعالى بالإحسان للوالدين تأكيد فقط على المكانة والقيمة التي يحظى بها الوالدان وحسب، بل فيه تحميل المسؤولية للأبناء وتأكيد على أن الوصول إلى رضا الله يمر عبر قنطرة رضا الوالدين، ولكن للأسف وبقراءة بسيطة لأحوال المجتمعات العربية والإسلامية نصطدم بواقع مرير جدا صار فيه الإحسان بالوالدين عملة نادرة..حلت محلها كل صنوف العقوق والعصيان والتمرد... إنه تمرد على الأعراف وعلى التقاليد بل هو تمرد على الدين وانقلاب على القيم وعلى الأخلاق الحميدة... فكم يحز في النفس خبر طرد ابن لوالده وتعريضه للتشرد، وكم هو مؤلم مشهد ذاك الفتى الذي وجه ركلة قوية إلى وجه أمه ناهيك عن كل الألفاظ السوقية التي تفوه بها في حقها، وأسالوا المستشفيات ودور العجزة عن آباء وأمهات نسيهم أبناؤهم وأهملوهم.هل تناسى هؤلاء أنهم مأمورون بطاعة الوالدين والاحسان بهما؟هل يغيب عن مخيلة الأبناء أن رحم الأم اتسع لهم تسعة شهور؟ألم يكد الوالد ويتعب ويشقى لتوفير المأكل والملبس والمسكن للأبناء فيكون مصيره في النهاية النسيان والإهمال... أهذا هو الإحسان ؟ألا يخشى هؤلاء أثار عقوق الوالدين التي منها على سبيل المثال لا الحصر:ـعدم راحة العاق في عيشة مع والديه، وفساد جو الأسرة من أجله.احتقار الناس له وعدم رجاء الخير منه.القصاص منه في الدنيا وذلك بمجازاته بالمثل.عدم توفيقه في نشاطه وبخاصة الاجتماعي منه.تعجيل عقوبته في الدنيا.التعرض لخطر دعاء الوالدين عليه.شؤم عاق والديه عن من حوله.حرمانه من فضل الله عليه في المواسم المفضلة.حرمانه من رحمة الله ومن دخول الجنة.فينبغي على كل ذي لب أن يحرص على بر والديه، وأن يتجنب عقوقهما، رغبة بما عند الله من جزيل الثواب، ورهبة مما لديه من شديد العقاب العاجل والآجل، وهيهات أن يكون للعاق أخلاق المسلم الحقيقي لأن الإسلام منه براء...لقد علمنا ديننا الحنيف أن نحسن إلى من أحسن إلينا، ونكافئه بأفضل مما لدينا، يقول الله تعالى:( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) وفضل الوالدين علينا عظيم، فهما سبب وجود الإنسان، وبرعايتهما اشتد عوده، وقوي عضده، وصار فردا نافعا، فهما عطاء من المنان، ورمز للدفء والحنان، وطريق العبد إلى الجنان، وبرهما أمر قضاه الرحمن، قال تعالى:( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا).عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة قلت من هذا ؟ فقالوا: حارثة بن النعمان ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كذلكم البر كذلكم البر ) وكان أبر الناس بأمه.من روائع هذا الدين تمجيده للبر حتى صار يعرف به، فحقا إن الإسلام دين البر الذي بلغ من شغفه به أن هون على أبنائه كل صعب في سبيل ارتقاء قمته العالية، فصارت في رحابه أجسادهم كأنها في علو من الأرض وقلوبهم معلقة بالسماء وأعظم البر ( بر الوالدين ) الذي لو استغرق المؤمن عمره كله في تحصيله لكان أفضل من جهاد النفل، الأمر الذي أحرج أدعياء القيم والأخلاق في دول الغرب، فجعلوا له يوما واحدا في العام يردون فيه بعض الجميل للأبوة المهملة، بعدما أعياهم أن يكون من الفرد منهم بمنزلة الدم والنخاع كما عند المسلم الصادق.قال تعالى: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ) البقرة 83،والإحسان نهاية البر, فيدخل فيه جميع ما يحب من الرعاية والعناية, وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين حتى قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما بعبادته التي هي توحيده والبراءة عن الشرك اهتماما به وتعظيما له،وقال تعالى ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ) النساء 36، فأوصى سبحانه بالإحسان إلى الوالدين إثر تصدير ما يتعلق بحقوق الله عز وجل التي هي اكد الحقوق وأعظمها تنبيها على جلالة شأن الوالدين بنظمهما في سلكها بقوله ( وبالوالدين إحسانا ).قال ذو النون ثلاثة من أعلام البر: بر الوالدين بحسن الطاعة لهما ولين الجناح وبذل المال، وبر الولد بحسن التأديب لهما والدلالة على الخير، وبر جميع الناس بطلاقة الوجه وحسن المعاشرة، وطلبت أم مسعر ليلة من مسعر ماء فقام فجاء بالكوز فصادفها وقد نامت فقام على رجليه بيده الكوز إلى أن أصبحت فسقاها، ورأى أبو هريرة رجلا يمشي خلف رجل فقال من هذا ؟ قال أبي قال: لا تدعه باسمه ولا تجلس قبله ولا تمش أمامه.ووصينا الإنسان بوالديهقال تعالى: ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) العنكبوت 8، قيل نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كما روى الترمذي: قال سعد أنزلت في أربع آيات فذكر قصة, وقالت أم سعد أليس قد أمر الله بالبر والله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر قال فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها فنزلت هذه الآية ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي..... ) وقال جل ذكره ( ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) الأحقاف 15-16،وقال أيضا ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) لقمان 14- 15.وقل رب ارحمهمايقول ربنا تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {وَقَضَى? رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23-24].يقول الدكتور زغلول النجار: تبدأ هاتان الآيتان الكريمتان بالنهي عن الشرك بالله وبالأمر بعبادته وحده. وتوحيد الخالق هو القاعدة الأساسية للدين، ولذلك جاء الأمر به بصيغة القضاء: وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه... بمعنى التوكيد لهذا الأمر الإلهي.وبعد هذه القاعدة الأساسية للعقيدة الإسلامية يأتي مباشرة الأمر الإلهي ببر الوالدين تأكيدًا لحقوقهما على الأبناء (وقد جعلهما الله تعالى سببًا لوجودهم) وتقديرًا لدورهما في رعاية أبنائهما في حداثة أعمارهم، وما أحاطاهما به من حب وحنان وعطف وتحمل لكافة مسؤولياتهم المادية والمعنوية.والأمر الإلهي بالإحسان إلى الوالدين يشمل كل ما يدخل على نفسيهما البهجة والسرور من مظاهر التقدير والإجلال والإكبار، اعترافا بأفضالهما، ومحاولة لرد شيء من رعايتهما وتربيتهما لأبنائهما في الصغر. وهذا الأمر الإلهي المؤكد هو قضاء واجب النفاذ دون أدني تردد أو مواربة، وهو سلوك يضع الأبناء على قاعدة عريضة من مكارم الأخلاق، من زاغ عنها خسر الدنيا والآخرة ولذلك قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.وتخص هاتان الآيتان الكريمتان الوالدين بهذا الإحسان في حالة كبر السن، وضعف البدن والحواس، وهي حالة تستوجب المزيد من رعاية الأبناء ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} أي: لا تستثقل شيئًا من أمرهما أو تضيق صدرًا به، ولا تغلظ لهما في قول أو فعل أو إشارة، لهما لأن (التأفف) هو إبداء شيء من الضيق أو الضجر مهما قل.والأمر الإلهي هنا للأبناء ألا يظهروا لوالديهم أي تعبير عن الضيق بهما أو عن عدم الرضا على تصرفاتهما مهما قل التعبير عن ذلك لأن حساسية الوالدين عند كبر سنهما تكون بالغة حد التأثر بأقل إشارة تحمل الإحساس بتبرم الأبناء من تصرفاتهما.هذا فضلًا عما قد يقع فيه بعض الأبناء نتيجة الجهل أو السهو من الوقوع في خطيئة زجر الوالدين بشيء من الغلظة في محاولة لنهيهما عما لا يعجب الأبناء من السلوك، وهو أمر ينهي الله تعالى عنه نهيًا قاطعًا. والآيتان الكريمتان تأمران الأبناء بالالتزام دومًا بشيء من التوقير والاحترام والإكرام في مخاطبة والديهما، خاصة إذا كانا يعيشان في كنف أحد الأبناء وتحت رعايته. وفي حالة كبر السن يحتاج كل من الوالدين إلى قدر أوفر من الملاطفة ورقة القول، والعناية والرعاية المباشرة للاطمئنان على جميع أحوالهما طلبًا لرضاهما ولدعائهما، ولرضاء رب العالمين الذي أمر بذلك. وتأمر الآيتان الأبناء بالتواضع لوالديهما والتذلل إليهما، والرحمة بهما، فلا يرفضون لهما طلبًا، ولا يرفعون عليهما صوتًا إجلالًا واحترامًا لهما وتقديرًا لدورهما في التنشئة والتربية للأبناء وهم صغار.
متفرقات - إسلاميات
صرخة في أهل العقوق... أفيقوا من غفلتكم... عودوا إلى رشدكم... حاسبوا أنفسكم... امتثلوا لأمر ربكم
وبالوالدين إحسانا...
هذه الصورة لطمة على وجه أهل العقوق
11:07 م