«كانت المرّة الأولى التي أزور فيها بيروت، تلك المدينة التي تدخل القلب من دون استئذان. تنقلتُ فيها، وتمشيّتُ وزوجتي على كورنيش بيروت، حيث وقع ناظري على بيت زهري اللون مواجه لمدينة الملاهي القريبة من المنارة القديمة، فلفت انتباهي من النظرة الأولى، ووقفت أتأمل هذا الجمال ناسياً ما يدور من حولي، وأدركتُ أنه مسكون حين رأيت حبل الغسيل والثياب المنشورة، ولاحقاً تبصّرت بشأنه فعلمتُ أنه لآل عرداتي ويعود بناؤه إلى العام 1882».هذا ما قاله توم يونغ، الرسام التشكيلي البريطاني في معرض الحديث عن كيفية تعرّفه على «البيت البيروتيّ الزهريّ» الذي يعرض فيه لوحات استوحاها من أجواء التراث المعماري للبيت اللبناني القديم.تعود حكاية «البيت الزهري»، الذي يطلّ على مدينة الملاهي القريبة من «الحمام العسكري»، وعلى الدولاب الذي لا يتوقف عن الدوران قرب الكورنيش البحري، إلى القرن التاسع عشر حين بنى محمد عرداتي الطابقين الأول والثاني منه على مساحة نحو 2200 متر مربع، ليكون مصيفاً مواجهاً للبحر لعائلته، وفي ما بعد أضاف الدكتور نجيب محمد عرداتي الطابق الثالث من هذا البيت الذي يتميز بفن البناء القديم والقناطر، وقد اشتراه لاحقاً المهندس هشام جارودي رئيس النادي «الرياضي».يعتبر «البيت الزهري» من أبرز البيوت اللبنانية القديمة، وقد جالت في أرجائه أحداث وجنسيات، فسكنه ضابط تركي وشخصيات فرنسية، وعاش فيه الملحق الثقافي في السفارة الأميركية في لبنان «روس لنش» في العام 1959، وسكنه لمدة سنة في العام 1963 صديق الرسام بابلو بيكاسو الفنان الأميركي جون فرن، وكانت لآل الخازن الحصة الأكبر فقد عاشوا فيه نحو خمسين عاماً.توم يونغ، المتزوج من اللبنانية الأصل «نور حيدر»، ظهرت موهبة الرسم عنده باكراً، وتحديداً في الثالثة من عمره، وهو أمر غير مستغرب، فهو ينتمي إلى عائلة فنيّة، حيث ورث هذه الموهبة من أمّه وجدتّه التي كانت معلمته الخاصة فساعدته ووجهته ونمّت له هذه الموهبة.لاحقاً، درس يونغ الفنون الجميلة في «كلية نورتش للفنون» في المملكة المتحدة والهندسة المعمارية في «جامعة نيوكاسل الإنكليزية»، ثم انطلق في المسيرة العملية، فشــارك في معارض عدة عالمية في باريس ولنــدن ونيويورك وغيرها.زار يونغ لبنان للمرة الأولى في العام 2006، حيث أسس لنفسه مشروعاً فنّياً بنى فكرته حول تداعيات حرب يوليو الإسرائيلية، وعن ذلك قال يونغ لـ «الراي» «إنّ العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006 ترك عندي أثراً نفسيا كبيراً، فقررتُ العودة إلى لبنان لتقديم ما أمكنني من مساعدة لأطفال الضاحية الجنوبيّة الذين تعرضوا لمشاكل نفسية بسبب الحرب».أقام يونغ ورشة عمل خاصة للأطفال، ساعياً إلى إخراجهم من صدمات القتل والدمار، وما لبث أن قرر في العام 2009 البقاء والعيش في لبنان «فهو البلد الذي تربطني به مشاعر عاطفية، وأنا معجب بصمود أهله وإقبالهم على الحياة». وقد أقام يونغ معرضاً فنياً في يونيو من العام 2013 في لبنان وتحديداً في البيـت القديم «villa paradise» في الجميزة، هذا البيت الذي ظلّ مهجورا أعواما طويلة منذ العام 1975.ويقول: «في لبنان مشكلة كبيرة، فقد محت العمارات الحديثة آثار التاريخ، وهذا الأمر يعنيني لأني ملّم بمبدأ المحافظة على البيوت القديمة، وأعمل من خلال ريشتي وأوراقي على الأقل ولو لإعادة جزء بسيط من هذه الآثار الجميلة لتبقى خالدة».لذلك، أضاف «قررتُ القيام بزيارة للبيت الزهري، حيث دخلته وقابلت السيدة فايزة الخازن التي كانت تسكنه مع والدتها، وجُلت فيه وراقبت كمّاً هائلاً من الأشياء الجميلة في هذا البيت فيما تثور الأفكار في داخلي، وحين غادرتُ توجهت فوراً الى السيد هشام جارودي ساعياً لطرح فكرة إقامة معرض عن هذا البيت، وفق ما دار في مخيلتي فوافق بسرعة، وبدأتُ العمل وكان عليّ إتمام هذه المهمة بفترة قصيرة لان فايزة كانت ستترك البيت».وتابع: «لا أنسى ما حصل يوماً، حين كنت جالساً على البلكون أرسم منظراً طبيعياً من المساحة التي خصصتْها لي السيدة الخازن، فإذ بالدخان والغبار يسيطران على ريشتي ليختلط كل شيء، وكانت المعلومة أن انفجاراً قد دوى في فندق ديروي (الروشة) القريب من البيت الزهري».وختم يونغ: «أقمتُ ستة أشهر في البيت الزهريّ، حيث خطت ريشتي خمسة وأربعين لوحة، وقد استطعت بفني فتح باب البيت الزهري، وسيبقى هذا الباب مفتوحاً حتى أواخر شهر ديسمبر»، متمنياً ان يصبح رساماً معروفاً في لبنان، ومعلناً عن عمل جديد يتشارك فيه مع مجموعة من الفنانين في أحد المباني في وسط بيروت.يُذكر ان معرض «في البيت الزهري» يضم لوحات عن البيت القديم وبيروت، كما يضم في جانب منه تكويناً لبعض لوحات الفنان التشكيلي والمعماري الراحل سامي الخازن شقيق فايزة، الذي كان يقيم أيضاً في المنزل.