هذه رواية ظلمها موضوعها ظلما بينا... تم التعامل معها باعتبارها تشكل رأس حربة الهجوم على تجربة عبدالناصر في الحكم، لدرجة أنه قيل ان الرواية تؤسس لما سمي «بالكرنكة» التي تقوم على الهجوم على عبدالناصر أساسا. وإن هذه التجربة قامت بتمويل أميركي وإسرائيلي ومن الرجعية العربية التي لم تكن تريد عودة تجربة ناصر مرة أخرى مهما كانت الظروف.وما أكد هذا الإحساس، أن الرواية منشورة سنة 1974. أي أن نجيب محفوظ بدأ التفكير في كتابتها بعد رحيل عبدالناصر بعام أو عامين. ثم كتبها بعد ذلك... الغريب أن الرواية بعد نشرها لم تقابل بنفس القدر من الحفاوة التي قوبل بها الفيلم. مع أن الرواية هي الأصل والأساس.وليس من عادة نجيب محفوظ أن يكتب في آخر روايته تاريخ الانتهاء من كتابة الرواية. لم يفعل هذا من قبل أبدا.لكن من يقرأ هذه الرواية حتى آخرها ويصل إلى الصفحة الأخيرة منها. وهي صفحة رقم 87. فالكرنك رواية قصيرة يكتشف أن نجيب محفوظ كتب آخر الرواية ديسمبر 1971. ومن المؤكد أن الحرص منه على تدوين التاريخ كان مقصودا.ثم جاء الفيلم. فيلم الكرنك، الذي حمل نفس عنوان الرواية، وكان أول عرض له يوم 29 /12/ 1975، أخرجه علي بدرخان، وكتب له السيناريو والحوار ممدوح الليثي. الذي كتب السيناريو والحوار لأهم أفلام مأخوذة عن روايات لنجيب محفوظ.وكان الفيلم من إنتاجه أيضا. ولعب البطولة: سعاد حسني. ورغم أنها كانت زوجة المخرج، فإن مشهد اغتصابها لدى الأجهزة الأمنية جرى تقديمه بأكبر قدر من الاحتراف الفني. بصرف النظر عن زواجها.كان البطل أمامها: نور الشريف... وهو أيضا من أكثر الأبطال الذين قدموا أدوارا محفوظية على الشاشة، خصوصا دور: كمال عبدالجواد. الذي هو نجيب محفوظ نفسه في ثلاثية بين القصرين. ولعب دور خالد صفوان الذي قيل إنه صلاح نصر مدير المخابرات العامة. مرة. أو حمزة البسيوني مدير السجن الحربي مرة أخرى، خصوصا بعد أن صرح نجيب محفوظ في حياته أن لحظة التفكير في كتابة هذه الرواية كانت بعد أن شاهد حمزة البسيوني نفسه في مقهى عرابي بالعباسية. وكنت شاهدا على هذه اللحظة، ولكنها حكاية أخرى.في هذا الفيلم عدد من أهم نجوم السينما في عصره، بل وكل العصور. كان هناك عماد حمدي، تحية كاريوكا، فريد شوقي، شويكار، صلاح ذو الفقار. ولو أطلقت لذاكرتي حرية تذكر بقية أسماء الفنانين. لاكتشفنا أن صناع الفيلم لم يتركوا فنانا مصريا واحدا وقت تصويره، لم يشركوه فيه.هذا الفيلم ظلم الرواية. خصوصا أنه عُرِض بعد صدور الرواية بعام واحد. وكل من شاهد الفيلم اكتفى بمشاهدته، وتحدث عن الرواية كأنه قرأها. هل أعترف أنني شاهدت الفيلم وبدأت الحديث عن الرواية؟ مع أنني لم أكن قرأتها... نظرت إليها على أنها من روايات محفوظ التي كتبت من أجل تحويلها إلى فيلم سينمائي. ومادمنا شاهدنا الفيلم لماذا نقرأ الرواية؟آخر ما أقوله عن الفيلم لأنني بدأت هذه الكتابة عن الرواية وليس عن الفيلم، ما قاله لي الصديق سيد فؤاد، المخرج والباحث والناقد السينمائي، ورئيس مهرجان الأقصر السينمائي الدولي، تحدث معي باعتباره رئيس قناة نايل سينما. سألته لماذا لا يعرض فيلم الكرنك في ذكرى ميلاد أو وفاة نجيب محفوظ أو حصوله على نوبل؟ فاجأني بالقول إنه كلما عرض الفيلم بمناسبة أو دون مناسبة، حتى تعترض الجهات الأمنية على عرضه، وتقول في سبب اعتراضها إن عرض الفيلم يسبب لهم مشاكل مع طلبة الجامعة، الذين ينظرون إلى الأمر على أنه حقيقة وليس حكاية أو رواية خيالية، لم تحدث في أرض الواقع.نعود إلى رواية الكرنك.بمراجعة قوائم نشر نتاج نجيب محفوظ. نكتشف أن العملين السابقين عليها في النشر هما: المجموعة القصصية: الجريمة ورواية الحب تحت المطر. وأن العملين اللذين نشرا بعدها. هما: حكايات حارتنا وقلب الليل. وهما من أهم أعمال محفوظ. ولكن حكايات حارتنا ظلمها كثيرا تشابه الاسم مع رواية: أولاد حارتنا، الشهيرة. وصاحبة الأزمة، أو ربما الأزمات المعروفة.أعترف أنني قرأت هذه الرواية أخيرا... بعد مشاهدتي للفيلم بأكثر من ربع قرن. لم أكن أشعر خلال هذه السنوات أن عدم القراءة ضيَّع عليَّ أي فرصة مهمة لقراءة نص جميل من نصوص محفوظ.لست في حاجة إلى القول إنه لا توجد مقهى اسمها: الكرنك. ونحن جميعا نعرف أن المؤلف يقصد مقهى ريش الذي كنا نجلس عليه معه. من المعروف أن نجيب محفوظ جلس كثيرا على المقاهي لإيمانه القاطع أن المنزل الذي يعيش فيه لا يصلح سوى للحياة العائلية.ولذلك يُجري جميع مقابلاته في المقاهي. وفي حياة محفوظ عدد لا يحصى ولا يعد من المقاهي. يمكن الإشارة إليها حسب الأماكن التي توجد فيها. هناك مقاهي الجمالية ومقاهي سيدنا الحسين ومقاهي العباسية. ومقاهي وسط القاهرة. ثم المقاهي المطلة على النيل أو بتعبير أدق الكازينوهات أو العوامات الراسية على النيل.ولكن لا بد من الاعتراف أن قراءة الرواية خلقت لي حالة من الندم الذي لا يمكن وصفه. لأن النص من النصوص التي كتبها نجيب محفوظ وهو في أحسن حالاته الإبداعية.في الرواية راوٍ لا نعرف عنه أي شيء. يتحدث عن الأبطال نيابة عنهم. والرواية مقسمة إلى فصول. عناوينها: قرنفلة وهي صاحبة المقهى. وإسماعيل الشيخ البطل الشاب الذي لعب دوره نور الشريف. وزينب دياب البطلة التي لعبت دورها سعاد حسني. وكلاهما إسماعيل وزينب من طلبة الجامعة. ثم خالد صفوان الذي هو الضابط. المشرف بنفسه على تعذيب الذين ألقي القبض عليهم. سواء أكان: صلاح نصر النجومي. أو حمزة البسيوني. والراوي العليم بكل شيء يصف وصوله إلى مقهى الكرنك هكذا.- اهتديت إلى مقهى الكرنك مصادفة. ذهبت يوما إلى شارع المهدي لإصلاح ساعتي. تطلب الإصلاح بضع ساعات كان عليَّ أن أنتظرها. قررت مهادنة الوقت في مشاهدة الساعات والحلي والتحف التي تعرضها الدكاكين على الصفين.عثرت على المقهى في تنقلي فقصدته. ومنذ تلك الساعة صار مجلسي المفضل. رغم صغره وانزوائه في شارع جانبي صار مجلسي المفضل. الحق أني ترددت قليلا بادئ الأمر أمام مدخله، حتى لمحت فوق كرسي الإدارة امرأة دانية الشيخوخة ولكنها محافظة على أثر جمال مندثر. حركت قسماتها الدقيقة الواضحة جذور ذاكرتي فتفجرت ينابيع الذكريات.