هل مرضت من قبل؟!إذا كانت إجابتك لا، فإني أهنّئك وأدعو الله عزّ وجل أن يتم عليك الصحة وراحة البال.أما إذا كانت إجابتك نعم، فأهلاً بك بحاراً تبحر معي بحكايتي التي أتمنى أن تنال إعجابك ...بداية لنتفق على تعريف للمريض...هل المريض هو الشخص الذي يعاني من الألم؟هل المريض هو الشخص الذي فقد وظيفة أحد أعضائه أو فاقد لوظيفة، يستطيع جميع البشر القيام بها، باستثنائه؟هل المريض هو الشخص طريح الفراش فاقد الوعي والإحساس؟هل المريض هو الشخص الذي يعاني من حالة نفسية أدت إلى ألم نفسي أو ألم عضوي؟هل المريض هو الشخص أو هو أو هو؟أسئلة كثيرة خطرت ببالي وبالك عند تعريف من هو المريض وكيف نستطيع الوصول لتعريف يرضي جميع المرضى ولا نظلم أحداً بهذا التعريف...أرأيت يا بحاري كيف أننا حتى التعريف، وجدنا صعوبة بالاتفاق عليه... لا أعرف كيف سنبحر ونحن لم نتفق على تعريف واضح يرضيني ويرضيك...ولكننا اتفقنا منذ البداية على أنني القبطان وأنت أحد البحارة، وإن كنت لا تعلم أو تتناسى قانون البحر، فأنا أذكّرك.على البحّار الطاعة التامة للقبطان (النوخذة) وغير ذلك يعتبر عصياناً يحاسب عليه البحّار ويعاقب بأشد العقاب...إذا كنت موافقاً على هذا الشرط فأهلاً بك.اسمع هذه الحكاية واحكم بالنهاية واصبر على القراءة...في أحد الأيام، قبل نحو سنتين، قررت دعوة الأصدقاء على العشاء بالشاليه الخاص بعائلتي.كان الوقت شتاء والجو لطيفاً يميل إلى البرودة. لكنني كنت مستعداً جداً لهذا الجو وأحب أن أذكرك بأني أحب الأجواء الباردة أكثر من الحارة.أحب الشتاء على عكس غالبية الناس.أحب الشتاء وأعتقد أن الشتاء هو وقت الإبداع و الاستمتاع بالعمل...هو وقت انتظار المطر في بلدي، والمطر له كل التقدير و الحب عندي.أحب المطر، وأحب أن أرى الأشجار بعد سقوط المطر.أحب أن أمشي خارج البيت والمطر يتساقط.عزيزي، لا أحب أن أذكر الحر الآن، وإن كان ذكر التناقضات يفيد بالفهم ويعزز الفكرة، ولكنني أنا القبطان وأنا من يحدد ماذا يجب أن يذكر.ولأنه لا يوجد قبطان ديموقراطي ديموقراطية تامة، وإن وجد فسوف تغرق السفينة أو يحصل عصيان بالسفينة يؤدي إلى فقدانه لموقعه كقبطان.إن من أهم صفات القبطان بنظري الحزم ... نعم، يجب أن يكون القبطان شديداً وحازماً ليقود السفينة إلى بر الأمان أو قد يقودها إلى الهلاك إن كان قبطاناً «عبيطاً» أو فاقداً للشخصية القيادية أو منقاداً خلف ملذاته وأهوائه أو تاركاً لمهامه وغارقاً في إشباع هواياته.عند المساء، وبهذا الجو الرائع الذي قلما يتكرر...جلسنا أمام البحر على الشاطئ الجميل وبدأنا نتسامر ... وشروط الجلسة المتفق عليها منذ زمن أن يغلق الكل هاتفه النقال وألا نتكلم عن أي شأن يخص العمل، أي باختصار ممنوع أن نتكلم عن القوانين والمحاكم والقضايا، لأن أحد الجلوس محامٍ وهكذا لبقية الوظائف.كان الحوار رائعاً وممتعاً...بدأنا الحوار عن الدروس الخصوصية، لأن ليس بيننا أي مدرس...كانت الآراء مختلفة نوعاً ما، وكان اللوم الأساسي على المدرس والذي أخذ من الأوصاف ما يصعب ذكره.ولكن صديقنا زياد كان له رأي جديد.قال زياد إن الاساس في الدروس الخصوصية هم الأهل وعدم معرفتهم أو عدم تقديرهم لقدرات أبنائهم، وأنهم جعلوا من دراسة أولادهم موضوعاً للتفاخر والتحدي بين الأسر.نعم، إن الخوف مسيطر على الأبوين من عدم نجاح ابنهم أو ابنتهم بامتياز.لقد أصبح امتحان الأولاد امتحاناً للوالدين قبلهم!قال زياد ذلك واسترسل قائلاً إن الآباء يحرمون أنفسهم من الاستمتاع بحياتهم من أجل الصرف على الدروس الخصوصية وعندهم كل الأمثلة التي تدل على فشل ذلك، ولكنها النظرة القصيرة للأمور.قال زياد بصوت عال «ألم يسأل الآباء أنفسهم أي من العلماء أو المشهورين بالإبداع العلمي والتقني كان يعتمد على الدروس الخصوصية؟ ... ولكنه الخوف من ألسنة الناس وأقوالهم هو من روّج للدروس الخصوصية، وليس المدرسون ومستوى التدريس»!فجأة سمعنا صوت إطلاق نار آت من مكان قريب جداً، لدرجة أنه أفزع الجميع إلا أنا، لأنني أعرف أن الصبيان المجاورين لنا يصطادون الطيور.ولكن كل الحضور استنكر الوضع وكيف أنهم تجرأوا على استخدام البنادق بالقرب منا لهذه الدرجة التي لم تحصل من قبل!قال صديقنا عماد أثناء الحديث «ولكنها طلقة واحدة، وعادة ما تكون طلقات عدة متوالية وصوتها مختلف»... قال ذلك وهو متأكد وواثق لأنه ذو خبرة واسعة باصطياد الطيور ... كان عماد يحب اقتناء بنادق الصيد الحديثة والقديمة منها، ويتفاخر دائماً بخبرته في هذا المجال وكيف أنه ورث هذه الخبرة عن عمه.هنا رد عليه صديقنا جاسم، وبالمناسبة يعتبر جاسم من أكبر المدافعين عن البيئة بيننا، فهو باختصار يعتبر هذه الطيور ضيوفاً أعزاء علينا أثناء هجرتها ويكره إيذاءها...رد جاسم كان مؤثراً جداً وألقى علينا خطبة عصماء عن البيئة والحفاظ على الطيور والنباتات وكيف أننا نتكلم عن البيئة والحفاظ عليها، ولكننا بأفعالنا لا نعكس هذا الكلام، وكيف أن هناك من يدّعون الاهتمام بالبيئة وهم من أجهل الناس بالبيئة، وكل ما في الأمر هو تكسّب إعلامي.وأثناء حديثه الممتع، جاء ابن صاحبنا سلطان ليخبر أباه بأن أخاه مختفٍ عن الأنظار منذ مدة وهو لا يعلم أين أخوه، ويقسم بأنه بحث عنه في كل مكان ولم يجده!ويؤكد أن المرة الأخيرة التي رآه فيها كان عند الشاطئ قبل أن نجلس نحن على الشاطئ.بدأنا بالبحث عن الولد الصغير، وأول منطقة كانت عند الشاطئ، مع إحساس الكل بأن الولد ربما حاول اللعب بالماء وقد يكون غرق.لم يستطع أي منا أن يطرح الفكرة على أبيه...ومعظمنا بدأ يتذكر كيف أن أحد الأولاد غرق على هذا الشاطئ العام الماضي بسبب الإهمال وعدم مراقبة الأهل، وكيف كانت المأساة للكل، خصوصاً أم الصبي الغريق...تذكرنا أنه كان خارجاً للتنزه مع أولاد عمه وحصل ما حصل...وكيف بدأ الخلاف بين أعمام وأخوال الولد ... انتهى الخلاف بطلاق الأم.أي مأساة جديدة للأم فوق مأساتها!وبدأ صوت الموج يزداد ... أو هكذا خُيّل لي بسبب صعوبة الموقف.بدأ البعض يطرح بصوت عال أننا يجب أن نتصل بالشرطة لتساعدنا بالبحث قبل فوات الأوان.في هذه الأثناء كان صديقنا عماد سارحاً ولا يشاركنا الحديث، والكل لاحظ أن العرق يتصبب من عماد والجو بارد نوعاً ما.ماذا حصل لعماد؟!....إنه الخوف ... تذكر عماد أنه ترك بندقية الصيد وهي جاهزة للاستعمال داخل سيارته وأنه نسي أن يقفل السيارة! تذكر عماد صوت الطلقة الواحدة التي سمعها والكل سمعها وكيف أنها كانت طلقة واحدة ... واحدة!إذاً فالولد المفقود داخل السيارة، وقد استخدم البندقية وأصاب نفسه بها... يا لها من كارثة.قلب عماد يخفق بسرعة والعرق يزداد واحمرار وجهه واضح.الخوف بدأ يسيطر عليه.بدأ عماد يحس بالمرض، وأي مرض.إنه الخوف من المجهول، الخوف من المسؤولية.الخوف على أسرته ومستقبله.بدأت الأحداث السعيدة والتعيسة تمر أمامه كشريط سريع...إنه الخوف على كل ما بناه، بدأ يجهز نفسه للرد على صديقه والد الصبي المفقود وماذا يقول له...ماذا سيقول في التحقيق؟ ... يود لو يأخذ صديقنا أحمد المحامي ليسأله ماذا يفعل وماذا يقول!]فجأة صرخ شقيقي محمد صرخة انتبه لها الجميع، ولكنه سكت بعدها وراح يفكر لوحده...بماذا يفكر محمد؟!تذكر محمد أنه وضع سماً للفئران في المخزن الخارجي، وأنه رأى ابن صديقه يلعب قريباً من المخزن...تذكر أنه عند شراء السم هذه المرة دخل مع البائع في حوار شديد، وأنه أنّب البائع لأنه باعه قبل أسبوعين سماً للفئران ولكنه كان من دون أي فاعلية، وقد أكلته الفئران ولم تتأثر أبداً بهذا السم! ...وكيف أن البائع هذه المرة قال له إنه أعطاه سماً مخصوصاً وقوياً جداً وأن مجرد لمس الفئران للسم سيميتها ... وأنه يجب أن يأخذ كل الحذر من هذا السم، لأن بيعه ممنوع كما يدعي البائع !ولكنه أعطاه هذا السم لأنه زبون معروف للمحل، وهو يحب أن يساعد زبائن المحل.تذكر جملة البائع إن لمسة هذا السم تقتل الجمل!الخوف سيطر على محمد.كان محمد يتفاخر دائماً بين الجميع بأنه لا يعرف الخوف ... وأن الخوف مرض، وهو مطعّم منذ زمن بعيد ضد هذا المرض.الخوف سيطر على محمد... للمرة الأولى منذ زمن بعيد، لا يستطيع الكلام وعيناه في الأرض.ماذا يقول لصديقه والد الصبي المفقود؟إنها المسؤولية، وهو من هو...هو أكثر الناس حرصاً على محاسبة المخطئين، دائم الانتقاد لكل مستهتر.دائم الانتقاد لكل شيء...وهنا تذكر كلامه عن المسؤولية والمحاسبة، وكيف أنه ككاتب في صحيفة، كان دائم الحديث عن محاسبة المخطئين ... وإن محاسبة المخطئين وحتى أنصاف المخطئين هو ركن أساسي بالمجتمع ...وكيف أنه كان يطالب بأقسى العقوبة ويستخدم أشد أنواع النقد للمخطئين.من سيدافع عنه الآن وهو من ترك باب المخزن مفتوحاً وهو يعلم مدى قوة السم الذي استخدمه وأن ابن صديقه كان يلعب قريباً من المخزن ولم يحذره أو يحذر والده!بدأ السواد يلف تفكير محمد وتذكر كل القصص البائسة التي مر بها، ولكنها بنظره لا تقارن بهذه المصيبة.للمرة الأولى يستشعر محمد بأن الخوف مرض.بدأت الأصوات تزداد علواً، وهنا تذكرت شيئاً...الشاليه الذي نحن فيه الآن بناه أبي وكانت به بئر ماء...نعم، لقد هجرنا هذه البئر منذ زمن بعيد ولكنها ...نعم، ولكنها ... كما قال لي حارس الشاليه الأسبوع الماضي بأن عليّ إحضار حداد معي هذا الأسبوع ليقوم بـ»تسكير» فتحة البئر ...الحارس يفكر أكثر مني ويخلي مسؤولياته...تذكرت كيف كان يقنعني بأن البئر خطرة جداً على الأطفال وأنه يخشى أن يسقط بها أحد الأطفال.عندما تذكرت ذلك بدأت قدماي ترتعشان، وأحسست بألم شديد يجتاح جسمي.ألم بالكاد أستطيع أن أتحمله.إنه الخوف وأي خوف.خوف من كل شيء.الأسبوع المقبل حفل زفاف ابني الكبير .... بالتأكيد ألغي وضاع كل شيء.لقد تسببت بموت ابن صديقي بشكل مباشر، والحارس شاهد على ذلك.تذكرت سوء معاملتي للحارس وكيف كنت أدقق على كل شيء ... كنت أحاسبه على أي هفوة وإن كانت صغيرة ولا تحتاج المحاسبة.تذكرت مدى ظلمي له.تمنيت أن يكون هذا حلماً أو كابوساً أو قل ما تشاء ... المهم أن أنجو من هذه المصيبة التي تسببت بها بسبب إهمالي وعدم تقديري للأمور وعدم أخذ الأمور بجدية، وأنا قد عرف عني الكل الجدية والالتزام وعدم التهاون مع المخطئين بالعمل معي.لقد كانت قسوتي وشدتي بالعمل يُضرب بها المثل.أين المبادئ ... أين القيم ... أين وأين وأين ؟! ...الخوف بدأ يتحول إلى مرض عضوي ... نعم، لقد بدأت أحس بآلام شديدة ببطني ومغص يقتلني وبدأ الغثيان يتسلل إلى معدتي.إنني متأكد أن الكل لاحظ حالتي وكيف بدأت أفقد تركيزي ولا أرد على أحد.آه ... يبدو أنني لا أسمع ... ولا أميّز بعيني من شدة الخوف.ازداد الصراخ لشد انتباهي بأن ابن صديقنا ... وجدوه!لشدة فرحتي سجدت لله ولاحظ الجميع أن محمد وعماد سجدا معي، وبدأنا بالبكاء الشديد.إنه الخوف ...إنه المرض ... الذي لم نتفق على أي تعريف له ...إنه الخوف الذي ليس له كبير ...أدركت الآن أن الخوف وباء قد ينتشر بين الناس بسبب أحدهم.إنه الخوف الذي يجب تدريب النفس على التعامل معه قدر الإمكان.
مقالات
الدكتور وليد التنيب / قبل الجراحة
هل مرضت من قبل ؟!
06:26 م