يوماً بعد يوم يتراجع حال النازحين السوريين في لبنان، مع تراجع تقديمات الجمعيات الانسانية المعنية بمساعدتهم. والواقع الكارثي بعد نحو اربع سنوات من بدء حال النزوح بات اكثر وضوحاً في المخيمات العشوائية المنتشرة في البقاع والتي يبلغ عددها نحو مئتين تضم المئات من العائلات السورية.ومع اعتماد سياسة التضييق على النازحين، وتطبيق برنامج ممنهج عند الحدود اللبنانية - السورية لمنْع دخول المزيد من الوافدين السوريين الى لبنان، ومع تقلّص تقديم المساعدات وانسحاب جمعيات معنية بهذا الملف، لم تعد المؤسسات الخيرية قادرة وحدها على ملء الفراغ الذي تركه انسحاب جمعيات اهلية ودولية. ولذا بدأت حالات من النزوح العكسي للسوريين، باتجاه بلادهم، رغم عدم توافر الامان لهم في غالبية المناطق التي عادوا اليها.وبحسب مصدر في الأمن العام اللبناني، فقد تراجعت خلال الشهرين المنصرمين نسبة السوريين الموجودين في لبنان بنحو ملحوظ، حيث اصبح عدد المغادرين يومياً ضعفي عدد الوافدين، لافتاً أن هذا التراجع يعود «لآلية العمل لدى جهاز الامن العام عند الحدود، وسياسة التضييق التي انتهجها بإيعاز من الحكومة اللبنانية، عدا عن حالات الهجرة التي يقوم بها النازحون الى بلاد اوروبية والى تركيا والجزائر بهدف الوصول الى اوروبا».قلة هي المخيمات التي يبدو الوضع فيها مقبولاً، او بالاحرى عددها لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة، فيما الغالبية الساحقة منها عشوائية اقيمت لانتفاع بعض السماسرة والتجار، وتبدو فيها الحياة منعدمة وأشبه بـ «مقابر جماعية» كُدس فيها النازحون على قارعة الأمل، يلتحفون خيمهم المهترئة فيما البنية التحتية للمخيمات مصروفة الى الفسحات بين الخيم ما حوّلها مستنقعات، الأمر الذي يهدد صحتهم.في احد المخيمات، «ابو ياسر» هو «الشاويش» الذي يضمن الارض من صاحبها الاساسي، ويؤجرها للنازحين كمرابض للخيم حيث تبلغ كلفة نصب كل خيمة سنوياً 600 الف ليرة لبنانية اي نحو 400 $. وما أن تطأ قدم زائرٍ المخيم حتى تلفحه رائحة كريهة منبعثة من مستنقعات المياه التي تجري بين الخيم، الناتجة من مياه الاستعمال المنزلي، (غسيل واستحمام وجلي). وكون لا توجد بنية تحتية للمخيم، يتم حفر اقنية صغيرة مكشوفة داخل الخيمة لجر المياه الى خارجها، فتتحول الى مستنقعات في المخيم، تعوم في الوحول وتنبعث منها الروائح والحشرات، ما يضفي على المخيم جواً عابقاً برائحة الفقر والعوز، عدا عن واقع النازحين المعيشي والذي اقل ما يقال فيه انه مزرٍ.وما زاد حال المخيمات وقاطنيها سوءاً، إعلان مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة عن توقف مساعداتها الغذائية للنازحين، من خلال رسائل عبر الهواتف الخليوية جاء فيها: «يؤسف برنامج الأغذية العالمي الإعلان بأنه لم يتسلم بعد التمويل لشحن البطاقة الغذائية لشهر ديسمبر 2014، مع التأكيد أنه سوف يتم إرسال رسائل جديدة بحال توفر التمويل لاستئناف المساعدة». هذا الاعلان وقع على غالبية العائلات السورية كالصاعقة، بحسب ما اشارت اليه «أم حسام» النازحة من حلب منذ سنتين، هي وبناتها الثلاثة وابنها، بعدما قُتل زوجها نتيجة سقوط قذيفة في منزلهم.وقالت «ام حسام» لـ «الراي»: «مصيبة اذا أوقفت الامم المساعدات»، لتضيف وهي تلطم يديها: «اذا الامم أوقفت المساعدات» رح نشحد «وما عنا معيل وما في شغل النا».وهذه العبارة اختصرت في الواقع قلق المئات من العائلات السورية التي تقتات من المساعدات الغذائية التي تقدمها لهم الامم المتحدة، بعدما تراجعت الجمعيات الانسانية والخيرية عن مساعدتهم، على حد تعبير «أبو سعيد» الرجل السبعيني المقيم في مخيم «الدلهمية»، والذي يوضح أن بعض ما كان يتلقاه وعائلته من مساعدات عينية من جمعيات خيرية، فجأة توقف «واليوم المفوضية على وشك أن توقف تقديماتها، ما يجعلنا مهددي المصير في ظل واقع اقتصادي مرير، وانعدام فرص العمل في جميع المجالات».يبتكر النازحون اساليب غير صحية للهروب من كلفة التدفئة وشراء مادة المازوت، ما يجعل بعضهم كما «عمران»، ابن الثالثة عشرة من عمره، يقضي نصف يومه وهو يفتش عن اي شيء قابل للاشتعال ليضعه في الموقدة.يحمل «عمران» بكيس ما جمعه من احذية بالية وبقايا أقفاص وقناني بلاستيكية وعيدان وأخشاب لتكون مصدر دفئه في الشتاء، وقال بلهجته السورية: «شطبتنا الامم المتحدة» ومو قادرين نشتري مازوت، شو نسوي وما في شغل؟.بدوره «نزيه» حوّل مدفئة المازوت التي قدمتها له احدى الجمعيات الخيرية العام الفائت الى مدفئة تعمل على زيت السيارات المحروق، (المستعمل)، رغم تدني سعر صفيحة المازوت من 30 الف ليرة (20$)، العام الفائت 20 الف ليرة (13$)هذا العام. وعن ذلك قال: «أشتري الزيت المحروق من كاراجات الميكانيك وسعر الصفيحة 6 الاف ليرة، (4$)، وأخلط كل ثلاث منها بتنكة مازوت». ويتنهد بغصة ليردف «افضل ما يموت ولادي من البرد متل ما صار بعرسال».وضْع مخيم «الدلهمية» ليس افضل حالاً من مخيمات قب الياس وبر الياس في البقاع الاوسط ولا ايضاً المخيمات المنتشرة في المرج وكامد اللوز وجب جنين في البقاع الغربي اذ انها جميعاً تشبه بعضها. حتى قصص وحياة النازحين فيها تسرد العوز والذل والمهانة في بلد فاض باللاجئين، فاحتار مسؤولوه في معالجة هذه الأزمة التي دهمته من بابه الشرقي، اذ حيناً تكون المعالجة بالتضييق فتصطدم بمخالفات تنمو فيها العنصرية، وأحياناً تصطدم باعتراضات لبنانيين، لما لهذا الملف على المجتمع اللبناني من تأثير سلبي.المؤكد اكثر من خلال المشاهد العامة أن الكوارث الصحية على النازحين السوريين في تلك المخيمات العشوائية، تكبر يوماً بعد يوم ولا سيما ان المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة قلّصت من مساعدتها في المجال الصحي بشكل ملحوظ، ما يضع النازح تحت مقصلة المستشفيات اللبنانية الخاصة، وابتزازات العاملين في هذا المجال.يتبدد المشهد وتزول الرائحة التي تلفح أنوف الزائرين للمخيمات، في مخيم الرحمن في تعلبايا البقاع الاوسط، الذي ما زال يديره اتحاد الجمعيات لاغاثة النازحين السوريين. وهنا الخيم منسّقة، فيها ممرات نظيفة بين الخيمة والاخرى، بنية تحتية كاملة.ورغم هذا التبدل في الصورة، يبقى ألم النزوح لدى العائلات كبيراً. ولا تجد «ناديا» ابنة الـ 24 عاماً مناصاً الا الرضوخ لضرورة الصمود بعدما قُتل زوجها تاركاً لها ثلاثة اطفال لا معيل آخر لهم، ما يجبرها على ان تنطلق صباح كل يوم كي تجد عملاً لها في تنظيف المنازل والمكاتب. «بونات الامم المتحدة ما تكفينا، وتوزيع الحرامات او اي مساعدة بسيطة بتخليك واقف متل الشحاذ من الصبح لآخر النهار، كلو بهدلة بهدلة»، متمنية كما الآخرين العودة الى بلادها فور وقف الحرب.لا يعرف «سعيد» من أين يبدأ، هل من عدم قدرته على ايجاد عمل يؤمن من خلاله معيشته واولاده بعدما شطب اسمه وعائلته من لوائح مفوضية شؤون اللاجئين؟ او من القلق من اعتقاله خلال المداهمات التي تقوم بها الاجهزة الامنية والعسكرية اللبنانية للمخيم بين الفترة والاخرى. وهو قال «انتهت المدة المحددة لي، وتجديد اقامتي يغرمني بـ 200 $، المبلغ غير موجود، ولا استطيع ان اعود الى الحدود السورية»، الامر ما يجعله«يختفي»عن أنظار الامن خلال عمليات الدهم خوفاً من اعتقاله.يؤكد مندوب الاغاثة في دار الفتوى الشيخ ايمن شرقية تراجع تقديمات الجمعيات الخيرية والاغاثية العربية والاوروبية، التي كانت تعتمد عليها دار الفتوى لمساعدة النازحين، ما فاقم من الأزمة وعرقل عملنا الانساني والاغاثي.ولفت الى «أن بيت الزكاة الكويتي والهيئة الخيرية الكويتية ما زالوا محافظين على تعهدهم بمساعدة دار الفتوى في ملف النازحين السوريين، انما ما يُقدم اليوم لا يوازي احتياجات 13500 عائلة في البقاع الغربي وراشيا».ويعيد شرقية اسباب التراجع في المساعدات الى المشاكل في العراق «حيث اتجهت بعض هذه الجمعيات لمساعدة النازحين في العراق»، مشيراً الى أن المأساة ليست عند السوريين فقط، مناشداً الجمعيات المعنية والهيئات الاغاثية «ان لا تغض النظر عن مساعدة اللبنانيين والسوريين، لأن الحمل ثقيل والبيئة اللبنانية الحاضنة للنازحين تَساوت معهم بالمآساة والفقر».بدوره مسؤول الاغاثة في جمعية الابرار الخيرية يحيا البريدي، يؤكد«ان الجمعية تدير خمسة مخيمات في البقاع، إدارة اغاثية وانسانية مميزة عن باقي المخيمات»، مشيراً الى «ان من الطبيعي التمايُز بين المخيّمات العشوائية القائمة على أساس من المتاجرة والسمسرة بين مالك الأرض وشاويش المخيم، وبين المخيمات الاخرى التي تدار بهدف انساني لإغاثة نازحين هاربين من الموت لا حيلة لهم ولا قوة على دفع ابتزازات السماسرة وغيرهم».ولفت الى «ان مشكلة المخيمات العشوائية تتفاقم اكثر على كافة الصعد الامنية والانسانية والاقتصادية وحتى الصحية، وللأسف كنا طالبنا الدولة اللبنانية بإنشاء مخيمات ذات مواصفات انسانية على عاتق الجمعيات المانحة، ما يخفف اولاً الهدر والفساد في هذا الملف، وبما يضمن تطويق المشاكل الاجتماعية والامنية عند النازحين»، موضحا «ان تراجع التقديمات يعرقل عملنا الاغاثي، باعتبار ان التقديمات ضئيلة ولا تتم وفق جدول زمني محدد»، ومشدداَ على«اننا مستمرون ما دامت الازمة قائمة، انما الجمعيات عليها ان تحدد عدد العائلات التي تستطيع مساعدتها لفترة زمنية محددة».واعتبر «ان العبء يكبر أكثر مع تفاقم المشكلة الاقتصادية والامنية عند البيئة الحاضنة التي هي ايضاً بحاجة للمساعدة، وما لم يتم ضبط وادارة هذا الملف من بابه الانساني فنحن مقبلون على كارثة انسانية كبيرة بحق اللبنانيين والسوريين».
متفرقات - قضايا
عائلات تعيش مآسي متنقلة هربت من «الموت» إلى... العوز والذل والمهانة
مخيمات السوريين... «مقابر جماعية» يتكدس فيها النازحون على قارعة الأمل
01:00 ص