في الجانب الآخر من الحدود اللبنانية، اندلعت قبل نحو اربعة أعوام ثورة شعبية «سلمية» هتفت لإسقاط النظام السوري. لكن «حلقات الدبكة» التي انتقلت كعدوى من مدينة إلى أخرى ومن حيّ إلى آخر لتعلن معارضتها لنظام الرئيس بشار الأسد بالغناء والأهازيج، لم تلبث أن تحولت إلى كتائب وتنظيمات حملت السلاح لمواجهة النار التي فتحها النظام في وجه المتظاهرين.ولبنان الذي نأت حكومته عن «البركان السوري»، طاولته «الحمم» تباعاً وتضاعفت بعد إشهار «حزب الله» مشاركته في هذه الحرب للدفاع عن «مقدسات» دينية... وسياسية.حول هذه المشاركة وتداعياتها على لبنان، وضع الأستاذ الجامعي والباحث وأمين سر حركة «التجدد الديموقراطي» الدكتور أنطوان حداد، كتابه «مسيرة الانخراط في الحرب السورية»، معتمداً القراءة الموضوعية التي لا تتسم بالحياد، والمقاربة الاستشرافية المبنية على الواقع المستمر دون الإدلاء بتوقُّع حاسم.ورغم ما سبقها من مشاركة لـ «حزب الله» في المعارك، إلا أن «مسيرة الانخراط في الحرب السورية» انطلقت في كتاب حداد الصادر عن دار شرق الكتاب، من «معركة القصير» تلك «الواقعة» المفصلية، التي ثبّتت المعلوم عن انتقال «حزب الله» بعديده وعتاده إلى مواقع القتال لوضع حدّ للحراك السوري.ولأن الأزمة السورية مستمرة، وكذلك تداعياتها التي استباحت لبنان ونالت من حياته السياسية وعمل مؤسساته الدستورية، فإن الكاتب اتخذ من مايو 2013 وحتى مايو 2014، إطاراً زمنياً يحده من جهة الإشهار «الشهير» بعد الإنكار الطويل لتورط «حزب الله» في الحرب وذلك إبان معركة القصير التي سقطت في أعقابها المدينة الاستراتيجية بيد النظام، ومن الجهة الأخرى شغور موقع الرئاسة الأولى في الجمهورية اللبنانية المستمر مع انقضاء ولاية الرئيس ميشال سليمان ورحيله عن قصر بعبدا من دون انتخاب خلَف له.فصول الكتاب الذي أهداه حداد لروح رئيس الحركة الراحل نسيب لحود، والتي سبقها تقديم من وزير الخارجية السابق ومندوب الأمم المتحدة السابق في ليبيا الدكتور طارق متري، زاوجت بين الوقائع والتحليل، ورسمت خطوطاً غير مرئية تبدأ من السبب لتصل إلى النتيجة، متوقفة عند تطورات محلية وأخرى إقليمية واكبت سير المعارك في سورية وأثّرت على مختلف أوجه الحياة في لبنان، وكان من بينها معركة القصير، حصار عرسال وقطع الطرق (في لبنان) احتجاجاً في مناطق سنية، نتائج الانتخابات الإيرانية، انهاء مجموعة الأسير في صيدا، الاحتقان السني، تسلل حرب القصير إلى الضاحية الجنوبية عبر التفجيرات المتنقلة في أحيائها، التمديد الأول للبرلمان، خطْف مواطنيْن تركييْن بعد تعثر صفقة مبادلة مخطوفي أعزاز، الضربة الأميركية وإلغاؤها، جولات الاقتتال في طرابلس بين باب التبانة وجبل محسن، اغتيال الوزير محمد شطح، تشكيل الحكومة...وينتهي العام «المحوري» (اي 2013) عند بداية فراغ بات هو سيّد الموقع الأول.هذا الكتاب، الذي اختصر في 175 صفحة من القطع المتوسط، عاماً صاخباً بالأحداث والحوادث، شارك في احتفالية الكتاب السنوية في معرض بيروت الدولي للكتاب بنسخته الثامنة والخمسين في مجمع بيال على الواجهة البحرية للعاصمة بيروت. فـ «دار شرق الكتاب» التي أصدرته، نظمت ندوة حوله في قاعة المحاضرات في المجمع، تلاها توقيع للكتاب في النادي الثقافي العربي.الندوة قدمتها الزميلة في تلفزيون «المستقبل» رولا كساب حداد، وشارك فيها الوزير السابق طارق متري، النائب السابق القيادي في تحالف «14 مارس» سمير فرنجية والصحافي علي الأمين، وحضرها العميد جوزف نجم ممثلاً الرئيس ميشال سليمان، فرح كرباج ممثلا الرئيس امين الجميل، الوزير السابق حسن منيمنة ممثلاً الرئيس سعد الحريري، وزير الاعلام رمزي جريج، وزير التنمية الادارية نبيل دو فريج، خالد علوان ممثلاً وزير العدل اشرف ريفي، طوني فرنسيس ممثلاً وزير الاتصالات بطرس حرب والنواب فؤاد السعد، جان اوغاسابيان، جمال الجراح، سمير الجسر وهنري حلو، منسّق الأمانة العامة لقوى الرابع عشر من مارس النائب السابق فارس سعيد، العميد المتقاعد وهبة قاطيشا ممثلاً كلاً من رئيس حزب «القوات الللبنانية» الدكتور سمير جعجع والنائبة ستريدا جعجع، الاب جورج ديماس ممثلاً متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، رئيس «حركة التجدد الديموقراطي» كميل زيادة، رئيس «حركة الاستقلال» ميشال معوض، رئيس تجمع رجال الاعمال فؤاد مكحل واعضاء من الحركة ومن تجمع لبنان المدني، عبلة نسيب لحود، محافظ عكار عماد لبكي، و وفد من بلدية بيروت وفاعليات.البداية كانت مع متري، الذي رأى ان «الكاتب، على عكس السائد، يكتب في التاريخ الراهن عن التدافع بين تدخّل لبنان في الصراع السوري وتأثيرات المأساة السورية على أحواله، ويذهب من تقدير الموقف الى استشراف المستقبل وهو مدرك صعوبة الامر في بلدٍ ومنطقة يصعب فيهما التوقع أو يخطئ»، معتبراً انه «لا يدّعي حياداً بل يتوخى الموضوعية ولا يخلط بينهما، وينطلق من الخاص الى العام فيحاذر التعميم ويطرح السؤال المحير والمقلق: هل ان لبنان يقترب من الهاوية ولا يهوي؟». وإذ لفت الى ان «لبنان يعيش مخاوف باتت نوعا من الوساوس والإشاعات تبشّر بأحداث كبرى لم يحصل منها شيء»، لم ينفِ «احتمالات حصول اضطرابات حقيقية، لكن القول انها ستصل الى ما هو عليه الوضع في العراق أو استنساخ الوضع السوري غير منطقي»، موضحاً ما اعتبره الكاتب «اننا في مرحلة هدوء ثقيل» بأن «الفكرة تعني ان الهدوء الذي نعيشه ليس مستقراً على حال ولا يبدّد المخاوف والوساوس، لكنه يلقي علينا أعباء كبيرة، وما يزيده ثقلاً تعذُّر انتخاب رئيس للجمهورية، وأسباب هذا التعذر هي المعيار أو الميزان الذي يبيّن اذا كان لبنان خرج من دوره كأرض صراع او انه سيستعيد بعضاً من دوره الكبير».وأشار الى ان «البعض يعتقد ان انتخاب رئيس هو عملية اقليمية اي انه ورقة ضغط لجهة اقليمية ما في وقت ما لتحصل على مقابل لها، وهناك مَن يعتقد ان انتخاب رئيس هو مسألة مطروحة للتفاوض الدولي، ولا اعتقد انها كذلك، بل أرى ان هناك اهتماماً دولياً برئاسة الجمهورية وجاء فرنسوا جيرو ليقول للبنانيين» (عليكم ان تتفقوا)، اي ليقول «المسألة عندكم»، ملاحظاً ان «انتقال أرض المنازلة الدولية من لبنان الى سورية يعزز فرص الاتفاق بين اللبنانيين، فيما عجزهم عن الاتفاق يستدعي احياناً هذا التدخل الاقليمي والدولي»، سائلا: «اذا كانت الحاجة الى لبنان ممراً وملجأ للناس والأموال لا بلد لجوء يحتاج لحمايته من الأسوأ، أو اذا كانت كلفة المشاركة في الصراع داخل سورية، ومعها ميل الى الحفاظ على مكاسب لبنانية كثيرة، تحول دون الاحتراب العميم في لبنان». واستنتج ان «هشاشة سياسة النأي بالنفس لا تقي لبنان من تأثيرات ومضار كثيرة»، لافتاً الى ان «الكتاب يتبصّر في ما ستنتهي اليه ليس بالتزامن مع الأوضاع في سورية وتقلبات المنطقة فقط، بل ايضاً في العلاقة المضطربة معها».ثم تحدث فرنجية، فرأى ان الكتاب وضعه أمام مشهد قديم يعاد إحياؤه بصيغة جديدة ومن معالمه:ـ دولة عاجزة تتحكم بقراراتها مارونية سياسية من طبيعة طائفية مختلفة، ويتلخص دورها في تنظيم الخلاف وإدارة الاشتباك في ظل معادلة الامن في مقابل الفراغ.ـ انقسام مذهبي حاد يذكّر بالانقسام الطائفي، الذي كان في اساس حرب لبنان.ـ مؤسسة عسكرية تتعرض لمحاولات توريط متزايدة في الانقسام المذهبي، وتذكّر بما حصل مع الجيش العام 1976 قبيل انقسامه وبروز ما سمي آنذاك بـ «جيش لبنان العربي».ـ انهيارٌ لنظام القيم شبيه بما حصل في نهاية الحرب الاهلية مع عصابات الخطف وعصابات تصنيع المخدرات وترويجها ومافيات الاطعمة الفاسدة والادوية.ـ مراهنات خارجية تكرر تجارب ماضية دفع اللبنانيون ثمنها غاليا.ولخّص ما اعتبره «جديد هذا المشهد المتكرر» بأمرين: «الاول اقدام فريق من اللبنانيين على خوض حرب خارج الحدود بحجة الذهاب الى القتال في سورية لتجنيب لبنان حرباً داخلية. والامر الثاني هو انكسار المعادلة التقليدية، التي تقضي بأن تتحوّل خسارة فريق الى ربح للفريق الخصم، وهذا ما لم يحصل لا لفريق 8 مارس ولا لفريق 14 مارس».واكد فرنجية ان «الأزمة ليست في الأدوات السياسية المعتمدة ليتمّ حلّها باستبدال فريق بآخر، انما هي في طبيعة السياسة المعتمَدة والتي لم يعد ممكناً ان تبقى قائمة على مبدأ الفرز التمييزي: فرز يطول الانسان، وفرز يطول الجماعات»، معتبراً ان «الانجاز الوحيد الذي تَحقق في هذه المرحلة هو انتفاضة الاستقلال التي لم تكن فعل قوى سياسية بقدر ما كانت فعل الذين تحرّكوا بقرار ذاتي، اذ اعتبر كل منهم نفسه شريكاً اصلياً في المعركة الدائرة».واشار الى ان «السياسة في مطلع هذا القرن باتت تنطلق من الاجابة عن سؤال: كيف يمكن ان نعيش معا متساوين في حقوقنا والواجبات ومختلفين في انتماءاتنا؟»، لافتاً إلى ان «العيش المشترك بات يشكل التحدي الاول: عيشٌ مشترك بين ناس ينتمون الى ثقافات وأديان مختلفة، عيش يفرض نفسه على السياسة التي لم يعد من مهمة لها سوى تأمين ظروف هذا العيش المشترك وحمايته». وختم قائلاً: «نعيش في لحظة بالغة الاهمية بين عالم قديم يتهاوى وعالم جديد يجهد للظهور. والفرز الذي ينبغي إحداثه هو فرز بين مَن يريد العيش مع الآخر بشروط الدولة وبين مَن يريد فرض شروطه على الآخر واستتباعه».اما الأمين فلفت الى «براعة الكاتب في متابعة الأحداث وتحليلها بمعزل عن الميول والأهواء، فقدم لنا كتابة منهجية سياسية، خصوصاً في قراءة الأحداث وربطها والوصول الى النتائج التحليلية والمنطقية في آن». ورأى ان «خصوصية الكتاب ليست في الرصد والمتابعة من دون الاستفاضة في التفاصيل اليومية للأحداث، ولا في المواضيع التي تناولها ولا في النزعة النقدية ولا في الاضاءة على الأخطار المحدقة بلبنان وتداعياتها، ولا في صدقيته...هي ليست في كل ذلك فحسب، بل هي ايضاً في ان هذه المنهجية اتبعها من دون الإخلال بشروط الموضوعية في عرض الأحداث وتحليلها».ولاحظ ان «الكتاب ليس حيادياً بل هو كتاب منحاز ومسكون بقضية فيها خيط خفي يربط خاتمته بمقدمته هو خيط (اللبنانية)، اي انه كتاب منحاز الى لبنان الوطن والدولة»، لافتاً الى ان «مبضع النقد، كما لم يوفر اولئك الذين غرقوا في الوحول السورية واستجلبوا نارها الى بلادنا، فهو لم يوفر ايضاً اولئك الذين جلسوا ينتظرون جثة عدوهم ولا وفّر الذين لم يكونوا على مستوى القضية اللبنانية التي رفعوا شعارها ولم يبرعوا في الدفاع عنها».من جانبه، وفي الختام، اوضح حداد أن «الكتاب ليس نصاً سجالياً او سياسياً بالمعنى التبسيطي، بل هو نصوص موضوعية وُضعت لنفيد منها ولتقدير المواقف، اي درس الخلفيات التي تقف وراء التطورات واستشراف الآفاق». واكد أن «الكتاب موضوعي لكنه ليس محايداً، فيه موقف لكنه غير مسبق، بل نتيجة قراءة المثبت»، معتبراً «ان ادوات القياس والمعايير واضحة وهي:ـ مفهوما الدولة والقانون الوطني والقانون الدولي بالمعنى السياسي والانساني.ـ منظومة حقوق الانسان.ـ نبذ العنف واعتماد الحوار.ـ نبذ الاقصاء واعتماد مبدأ التضمين.وقال: «الاستنتاج هو ان الانخراط في الحرب السورية هو حدَث مفصلي بالمعنى السلبي في التاريخ الحالي للبنان، وما بعد الحرب لن يكون كما قبلها»، معتبراً ان «الوضع الراهن هو وليد الانخراط في الحرب السورية».واشار الى ان «لبنان لم يعان انفجاراً، وهو مضطرب ولا يهوي بل يتهدّده خطر قد يكون أخطر من الانفجار، وهو الانهيار البطيء في الاقتصاد وتسيير الشؤون اليومية للدولة»، مستنتجاً ان «هذه الصفحة من تاريخ لبنان لم تُطوَ ولم تُكتب خاتمتها، وأن لا حتمية من خطر الانهيار فنحن امام مفترق وفرصة، فإما الانخراط التام في الحرب واستيراد العنف، أو النجاة منها والتفاهم على تحييد لبنان، وهذا خيار ممكن اذا تم تبنيه بتفادي الحرب».بعد ذلك، انتقل الجمع إلى زاوية «النادي الثقافي العربي» في المعرض، حيث وقّع حداد كتابه محاطاً بالرفاق والأصدقاء، وفي حضور وزراء الاتصالات بطرس حرب والعدل اشرف ريفي والسياحة ميشال فرعون.
متفرقات - كتب
كتاب لأمين سر حركة «التجدد الديموقراطي» يزاوج بين الوقائع والتحليل من دون الإدلاء بتوقُّع حاسم
أنطوان حداد في «مسيرة الانخراط في الحرب السورية» قراءة موضوعية لكنها غير... محايدة
11:27 م