| القاهرة - من حسين الزناتي |
كان المشهد في الأيام الأخيرة في مطار القاهرة وعدد من القرى المصرية موجعا كئيبا حزينا، يعجز القلم عن وصفه، اللهم إلا إذا دبت الروح في جسد أبي العلاء المعري، الشاعر العربي المعروف بالإحباط والشؤم، ليعيد علينا بيته الشهير: «سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبالك يسأم».ففي أجواء باكية مأساوية حزينة.. استقبل مطار القاهرة الدولي منذ أيام جثامين غرقى من الشباب.. الذين لقوا حتفهم قبالة السواحل الإيطالية مطلع الأسبوع قبل الماضي في هجرة غير مشروعة.أهالي الضحايا وأقاربهم حضروا مبكرا من محافظات «الشرقية والفيوم وبني سويف والدقهلية» وغيرها ليكونوا في استقبال الجثامين، كان الحزن هو سيد الموقف، أسكت الألسنة وأمد الأعين بسيل من الدموع لا يتوقف، واتخذ من الأفئدة معسكرا له، لن يغادره بسهولة. وكانت اللحظة الأصعب.. هي التي برزت فيها الصناديق الخشبية، التي تحمل الموتى، حيث انطلقت الحناجر بالصراخ والبكاء والعويل، ولم يخجل رجل فقد ابنه من لطم خديه كالنساء «لقد فقد فلذة كبده، وأمله في الحياة، وغدا بلا سند ولا أمل».سلطات مطار القاهرة.. كانت على مستوى المسؤولية، أفرجت عن الجثامين من دون تعقيدات إدارية، وفور تسلمها التقارير الطبية الواردة من إيطاليا، والتي أفادت بأن سبب الوفاة هو توقف القلب والتنفس بسبب الغرق، وتوجه فرد من كل أسرة لتسلم الجثمان وتصريح الدفن، وخرجت الجثامين من باب «35» من قرية البضائع.«الراي» التقت أهالي الضحايا الخمسة، وروى كل منهم مأساته.إبراهيم عياد.. والد فتحي (21 عاماً) قال: «مقاوما دموعه: ابني تخرج في كلية الحقوق، كان طموحا إلى أقصى حد، كان يأمل أن ينشلنا من دوامة الفقر، الذي ألفنا وألفناه، اقترضت له من الأقارب والجيران حتى يحقق حلمه بالسفر، ولكنه وقع في أسر عصابة، خدعته، ولن تبرد ناري حتى تقتص الحكومة المصرية من أفراد تلك العصابة بأقصى سرعة.ويلتقط عبدالحميد سيد «من أقارب حازم مسعد»، طرف الحديث مشيرا إلى أن والد حازم توفي منذ فترة، ووالدته في حالة صحية سيئة منذ علمت بالخبر الصدمة. وأضاف: إن حازم فقد الأمل في العثور على فرصة عمل في مصر، ما دفعه إلى التفكير جديا في السفر، بحثا عن عمل شريف، ينفق منه على نفسه ووالدته المسنة.منوها إلى أن الضحية اقترض من الأهل والأقارب والجيران الأموال اللازمة للسفر، لم يكن يعلم أن أمله لن يتحقق، وأن البحر سوف يبتلع أحلامه، وأنه سوف يعود سريعا في صندوق خشبي.. لقد راح حازم مثل غيره ضحية أحلامه.وقال أحد أصدقاء الضحية «محمود فراج»: إن شقيق محمود يعمل في إيطاليا منذ سنوات، ما دفعه إلى السفر لتحقيق أحلامه في العثور على فرصة عمل تنتزعه من البطالة التي تنتشر في قرى ونجوع مصر، والتي تتخذها عصابات التسفير مكانا آمنا، لاصطياد ضحاياهم، الذين طحنهم الفقر وأذلتهم البطالة.وطالب عزت عجيب، ابن شقيق الضحية محمود سمير، من الجميع بالتماس الأعذار للضحايا وعدم وصمهم بالطماعين والمغامرين، لأنهم كانوا يبحثون عن فرصة «عدموها» في بلدهم، وهو حلم مشروع، حتى ولو كانت هجرتهم غير مشروعة، كما طالب الحكومة المصرية بالقصاص من عصابات التسفير وإعدامهم في ميدان عام، حتى لا تتكرر فصول جديدة من تلك المأساة.سمير صلاح، خال الضحية «محمود فراج» قال: إنه لو كان هؤلاء الضحايا أخطأوا لأنهم خرجوا في هجرة غير مشروعة، فإن حكومتهم كانت أسبق منهم في الخطأ، لأنها أدارت لهم ظهرها، ولم تشعر بهم، ولم تقدم لهم يد العون والمساعدة، متابعا: وجدوا الأبواب جميعها موصدة في وجوههم فولوا وجوههم إلى بلد آخر بحثا عن الأمل المفقود، فلم يكن مطلوبا منهم أن يجلسوا على المقاهي أو يتحولوا إلى مشردين أو بلطجية أو إرهابيين.. كانت أحلامهم مشروعة.. ولكن هذا قضاء الله وقدره.. «إنا لله وإنا إليه راجعون».ومن جانبه، عبر النائب في البرلمان المصري محيي الدين رفعت عن عميق حزنه بسبب هذا الحادث الأليم الذي أودى بحياة شباب في مقتبل العمر، واصفا ما حدث بـ «الكارثة الإنسانية» التي تسأل عنها الحكومة المصرية، لأنها لم تقم بمسؤولياتها تجاه مثل هؤلاء الشباب، الذين يئسوا من العثور على فرصة عمل تقيهم البطالة والمسألة. وقال لـ «الراي»: آن الأوان لأن تستيقظ الحكومة من سباتها العميق، وتتوسع في إنشاء مشاريع داخل الريف المصري والنجوع الفقيرة، لتستوعب آلاف الشباب الذين يتخرجون في الجامعات لينضموا إلى طوابير البطالة.في السياق ذاته، وعلى نفس الطائرة وصل «50» شابا آخرون من الذين نجوا من الغرق، ورحلتهم السلطات الإيطالية.. حيث أكدوا لـ «الراي» أنهم عاشوا كابوسا هو الأسوأ في حياتهم.. «لقد شاهدنا زملاءنا وهم يموتون، وفقدنا كل شيء، ولن نكرر تلك التجربة ثانية، كانت مريرة وحزينة». وفي الوقت الذي غابت فيه الخارجية المصرية عن استقبال جثامين الضحايا حرصت العديد من وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الأجنبية على الاحتشاد في مطار القاهرة لمتابعة وصول الجثامين.من ناحية أخرى، أمرت النيابة العامة المصرية بحبس «72» متهما في واقعة غرق «184 مصريا» أمام سواحل إيطاليا الخميس قبل الماضي، وذكرت أنباء أن المتهم الرئيسي «زكريا محمد السيد» حاول الانتحار داخل محبسه، حيث قطع شريان يده، وأسعف إلى المستشفى وسط حراسة أمنية مشددة، كما أمرت النيابة بضبط واحضار «10» متهمين آخرين.