في الجزء الثاني من المقال «دور (أوبك) في تقلبات أسعار النفط»، سأجيب عن التساؤلات التي طرحتها في المقال السابق.قبل القيام بذلك، لا بد من التأكيد على صعوبة التنبؤات عموما، وخصوصاً تلك المرتبطة بالنفط وأسعاره.وقد فشل في ذلك أعتى نظم التنبؤ الشخصية والآلية، نظرا لوجود متغيرات مجهولة وغير ثابتة ومرتبطة بالعقل الإنساني، الذي هو أصعب شيء يمكن قراءته ووضع نمط له، فمثلا يمكن أن تقوم حرب بين دول لأسباب تافهة، وأحيانا شخصية وفي وقت قصير ولذا فإن التنبؤات ستخرج عن السياق.كما ذكرت في الجزء الأول أنه يوجد سعر متوسط للنفط، وهو متوسط ارتفاع وانخفاض الاسعار في العقود الأربعة السابقة، وقد تم تقديره عند 31 دولاراً مثبتا عند دولار سنة 2010. هذا السعر إذا ما تم تحويله الى دولار 2014 سيكافئ 45 دولاراً تقريبا، أي أن سعر البترول في فترة النزول الحالية مرشح للانخفاض الى ذلك المستوى.لو انخفض السعر الى 45 دولاراً للبرميل فهو في السياق التاريخي، ومن المفترض أن يكون متوقعاً، وتم الاعداد له عند تقدير الميزانيات، سعر 45 -50 دولارا للبرميل إذا وقع سيكون مقابل كمية الاستهلاك الحالية وهي 92 مليون برميل يوميا تقريبا. لذلك فإن السعر الفعلي حاليا (70 دولار+) يفوق ذلك السعر الوسطي.ومن ذلك نستنتج أن سعر النفط يمكن أن يهبط اليه (45-50 في المئة) بغض النظر عمن ينتج الرقم 92 مليون برميل في اليوم، أوبك، خارج «أوبك»، الزيت الثقيل أو الزيت الصخري، فإن هبوط أسعار النفط الى هذا المستوى يعتبر تصحيحاً للزيادات السابقة ومن المفروض، ألا يكون مفاجئا ولا كارثيا كما يصوره البعض.هل سيصعد سعر النفط مرة أخرى؟ بكل تأكيد، ستصعد الأسعار من جديد، ليس بسبب قرارات «أوبك» في اجتماعات فينا، ولكن بسبب النمو في حجم الاستهلاك الذي سيشهده السوق خلال السنوات المقبلة. تاريخيا حجم الاستهلاك ينمو بمعدل 2 في المئة في السنة، وهو معدل مرتبط بمعدل النمو السكاني والاقتصادي وارتفاع المستوى المعيشي.إذا ما استخدمنا هذا المعدل في تقدير الاستهلاك لسنة 2020 مثلا، سنجد أن الاستهلاك سيكون 100 مليون برميل يوميا، أي أن سوق النفط سيحتاج الى 8 ملايين برميل يوميا جديدة، أضف الى ذلك لو افترضنا أن الطاقة الانتاجية الحالية تتناقص طبيعيا بمعدل 2 في المئة، سيحتاج السوق الى 8 ملايين برميل أخرى لتعويض الفاقد. أضف الى ذلك أن الانخفاض الحالي لأسعار الطاقة قد يحفز الاقتصاديات العالمية للنمو بوتيرة أكبر.كل هذا يعني أنه هناك حاجة الى 10-15 مليون برميل يوميا جديدة بحلول 2020 لتلبية متطلبات السوق. دول «أوبك» هي أكثر المنتجين قدرة على تلبية المستوى الجديد من الاستهلاك بسبب وفرة الاحتياطي ورخص انتاجه وسرعة الاستجابة للطلب.أما الزيت الصخري سيكون مصدراً رئيسياً ومؤثراً، ولكن من غير المحتمل أن تزيد حصته على 3-4 ملايين برميل يوميا مبقيا الحاجة الى أكثر من 10 ملايين برميل يوميا من «أوبك» وغيرها من مصادر النفط التقليدي، هذه الكميات الجديدة المطلوبة لتلبية متطلبات الاستهلاك تعني أن الأسعار المستقبلية ستعاود الارتفاع، ولكن هذا الارتفاع سيكون أقرب للمعدلات الطبيعية والمعروفة تاريخيا والأقل من 10 في المئة سنويا، فمثلا اذا هبط سعر النفط الى 60 دولاراً في موجة الهبوط هذه، فإن متوسط سعره سيكون 90 في المئة للبرميل تقريبا في 2020 مقاسا بدولار ذلك الوقت، لذلك يجب على المعتمدين على النفط أن يعيدوا النظر في الاستراتيجيات المالية لأخذ هذه الاسعار في الحسبان.نأتي لدور «أوبك» في الماضي والمستقبل، كان الهدف من تأسيس المنظمة، هو كما ذكرت المشاركة في إدارة الثروات البترولية الموجودة في أراضيها والحصول على قسط أكبر من الدخل، والذي هو مطلب عادل وطبيعي، ولكن المشكلة أتت عندما تحولت «اوبك» في عيون الكثير من المستهلكين الى منظمة شبه احتكارية وباجتماعاتها المتكررة ورفعها للأسعار في فترات قصيرة وخفضها للإنتاج رغم وفرة الطاقة الانتاجية للحصول على أعلى الأسعار دون مراعاة لمصالح المستهلكين في بعض الأحيان، تلك الصورة حولت المنظمة في نظر البعض الى محتكر لا حدود لرغبته في رفع الأسعار.نعم أعتقد أنه وصل الغرور ببعض أعضاء المنظمة يوما للاعتقاد أنه لا يوجد نفط، الا عند المنظمة وأن المنظمة تستطيع أن تملي أي سعر على المستهلكين الذين لا خيار لهم ونست المنظمة قوة تأثير العرض والطلب وتفاجأت المنظمة بالمنافسة من أطراف عدة الذين بمرور الوقت استحوذوا على أكثر من 60 في المئة من الحصة السوقية.آن الأوان أن تعيد المنظمة النظر في استراتيجياتها، وربما حتى أهدافها داخليا وخارجيا وأن تغير الأسلوب القديم الذي كان مقتصراً على اللقاءات الدورية في جنيف لإملاء الكميات والأسعار الجديدة على السوق. من الأفضل أن تسعى «أوبك» الى تغيير صورتها من منظمة احتكارية في نظر البعض الى منتج للطاقة كأي من المنتجين من خارجها، وتنافس لا على أساس الاتفاق على تثبيت الأسعار، ولكن على أساس الجودة والكفاءة والمنافسة والحرص على مصلحة المستهلك والمحافظة على البيئة وتقنين استهلاك الطاقة والمساهمة في التقدم التكنولوجي والبحوث والدخول في مشاريع بدائل الطاقة ونظمها والانتقال بالمنظمة من صورتها التكتلية الى صورة أكثر اندماجا مع بقية منتجي الطاقة من خارجها وأن يكون أعضاؤها مستعدين لتسويق منتجاتهم في أجواء قريبة من السوق الحرة.أما داخليا، أعتقد أن الهبوط الحاد هذه المرة لا بد أن يكون حافزاً لدول «أوبك» للتحول من دول فقط تبيع النفط، وتنفق ما تحصل عليه وتستهلكه، الى دول تأخذ التنمية البشرية مأخذ الجد بحيث تتجنب تأثير موجات الأسعار في المستقبل. يجب توفير فرص التعليم والتدريب بحيث يتمكن المواطنون من الاعتماد على أنفسهم في إيجاد فرص عمل خارج كادر الحكومة من دون دعم أو بطالة مقنعة وتأهيلهم بحيث تكون استقلاليتهم في دخلهم مصدر فخر لهم. كذلك يجب كبح جماح الاستهلاك الداخلي ورفع الدعم عن أسعار الطاقة وربما تحويل الدعم الى زيادة في الرواتب ليكون قرار صرفها في يد صاحبها الأمر الذي قد ينتج عنه زيادة التقنين.الدول المليارية السكان مثل الهند والصين نجحت في تغيير النظرة الى البشر كعبء وتمكنت من تحويلهم الى ثروة بشرية منتجة، بينما تتعلل بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي لا يتجاوز عدد سكانها كلها 350 مليون في هذه الأراضي الشاسعة بأنها مثقلة بعدد السكان. هذا دليل على أن استراتيجيات التعليم والتدريب السابقة كانت قاصرة وربما سيئة ويجب إعادة النظر فيها.يجب التذكر أن البشر ثروة أغلى وأحسن من البترول إذا ما تم تعليمهم وتدريبهم وتطويرهم. بعد التعليم والتدريب والتأهيل يأتي دور التقييم والمحاسبة والشفافية في الوظائف بحيث يكون الهدف من توظيف أي شخص هو أن يكون الإنتاج من الوظيفة يلبي طموحات المؤسسة أو الشركة.لا يمكن الوصول الى ذلك بين ليلة وضحاها ولكن كل تذبذب في أسعار النفط وكل أزمة مثل أزمة الأسعار الأخيرة تذكرنا بأن هذه الدول أمامها طريق طويل للخروج من لعبة قطار الموت المعروفة التي تفرضها تذبذبات الأسعار وقد يأتي يوم لا يصعد فيه القطار من القاع مرة أخرى.* قسم تكنولوجيا هندسة البترول - الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب