يستكمل الباحث في اللسانيات الكاتب نادر سراج حديثه عن كتابه، الذي جاء في 408 صفحات، وصدر بالتعاون مع «المعهد الألماني للأبحاث الشرقية» في العاصمة اللبنانية، والذي توجّ جهده وفريق عمله بدراسة 1700 شعار لتحليلها من كل الزوايا وتقديمها عملاً متكاملاً يحمي تلك المرحلة من السقوط في غياهب ذاكرة العرب القصيرة، مشيرا إلى أن اللغة الخشبية الرسمية للخطاب السياسي التقليدي زالت وأعطت مكاناً للغة جديدة، هي اللغة اليومية، لغة المحرك الأساسي في المجتمع، وأن الشعار السياسي تحوّل على أيدي المصريين وشباب الثورة المصرية إلى فعل سياسي، ولكنه لم يصنع الثورة المصرية فالتوازنات السياسية هي التي تدخّلت... والكثر من الآراء ستجدها في الجزء الثاني من الحوار وهذا نصه:• لا شك في أن هكذا نوعا من الدراسة، مع المصطلحات التقنية التي تم استخدامها وطريقة طرح الموضوع، تتوجه إلى المهتمين بهكذا موضوعات والمتخصصين فيها. في مكان آخر، ألا يمكن اعتبار هذا الكتاب وما تضمّنه بمثابة توثيق وحفظ شيء من إرث الثورة المصرية نظراً لقصر الذاكرة العربية؟ـ هذا الكتاب يتوجّه إلى قارئ متوسط. أنا أريد معالجة هذا الموضوع بوجهتيْ نظر. فأنا ابن المدرسة اللسانية الوظيفية في فرنسا، والذي يُعد أندريه مارتينيه أستاذها وملهمها. فنحن ندرس اللغة التي تعد وظيفتها الأساسية هي التواصل. كل اللغات تتبدل، حتى الفصحى ولكن بوتيرة بسيطة، فيما اللغات المحكية تتبدل أكثر. ولغة الثورة هي اللغة المحكية والخطاب اليومي، وهذه اللغة تتبدّل لأن احتياجات الناس تتبدّل. فاللغة الخشبية الرسمية للخطاب السياسي التقليدي زالت وأعطت مكاناً للغة جديدة، هي اللغة اليومية، لغة المحرك الأساسي في المجتمع، أي الفئات الاجتماعية. وأنا شخصياً جئتُ من هذه المدرسة. ولفهم كتابي لا بد من العودة إلى الخلف، فأنا أعمل على ما يسمى الخطاب «المسكوت عنه» والمغيّب. ففي العام 2007 كتبتُ عن خطاب الرشوة أو لغة المصالح في العالم العربي، وما يقوله الناس كي يقدموا الرشوة.في العام 2012 تحدثتُ عن لغة الشباب في هذا العصر، تكلمتُ عن كلام لا يحكى لكنه موجود وحقيقي. وتكلمت عن ظاهرة لغة العربيزي أي العربية المكتوبة بالحرف اللاتيني.في المرحلة الثالثة أتحدث عن الشعار الذي يعتبر منتوجاً من المنظومة العقلية للشباب العربي، فهم مَن ابتدع الشعار في ميدان التحرير ولم يحصل ذلك في الغرف السوداء المقفلة ولا على يد حزبيين مغرقين من الجيل الثالث أو الرابع.نحن نوثق. هذا صحيح، وقد صببتُ اهتمامي خلال سنتين كاملتين وفريق عملي اللبناني والمصري - ومنه طلابي في الجامعة اللبنانية من قسم علم اللغة والتواصل- على هذا الكتاب. وأشكر «المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت» الذي تبنى الفكرة ومولها. علماً ان ميزة الكتاب تتمثل في أنه لا يوثق الخلفيات والمنطلقات السياسية والمراحل والنكسات، بل يوثق منطوق هذا الحراك.نحن نوثق لأن هذا الشعار سيزول بعد قليل. ففي مصر هناك هيئات عديدة وثّقت مشكورة كل الشعارات، ولكن أهمية التوثيق إلى أين سيصل بنا. أنا أخرجت من الشعار علاماته ومفاتيحه الدلالية والسيميائية، وربطته بالحياة اليومية للمصري، بحيث دخلت إلى مجال الأكل والشرب والمركبات والملابس والنقل والرموز الدينية ورمز اليد، لمعرفة كيف يفكر المصريون وكيف نقلوا تفكيرهم من اللاوعي الجماعي عندهم وأدخلوه في الشعار السياسي، ونهلوا من مرتكزات التراث الموجود من حولهم ولم يأتوا بجديد.• بالمقترضات الشعارية أو تبادل الشعارات بين الثورات العربية وربما في كل العالم، لا شك أن هناك شعارات مشتركة. كيف يختلف تأثير الشعار نفسه بحسب البيئة التي يطلق فيها؟ـ نأخذ نموذجياً أحدهما «degage» أو ارحل و«الشعب يريد» اللذين دخلا التاريخ.لم يكن المواطن المناضل الناشط السياسي الحزبي يجرؤ على توجيه الخطاب لرئيس الدولة ليقول له «ارحل»، ولكن الظروف السياسية ودينامية الحراك الذي شهدته الدول العربية مكّن الناس من اختراق جدار الخوف والصمت، بحيث لم تعد صورة الحاكم هي نفسها، خصوصا في أيامه الأخيرة.وفي غلاف كتابي، اختار المخرج شعار «ارحل، الولية عاوزة تولد والولد مش عاوز يشوفك». وفي هذا الشعار كلمات من التراث المصري كـ «الولية». فالشعارات في مصر لم توضع في مكتب مكيّف، لتوزيعها على الأنصار. في مصر كان لـ «ارحل» نحو 20 مرادفاً: «فكك منا، حلّ عنا، طير..». حقل معجمي مصري داخلي طريف.وفي تونس، حيث الفرانكوفونية طاغية، قال التونسيون لبن علي: degage. وقد نزلت أولى الشعارات بالفرنسية.. ويلاحظ أن في الشعار التونسي ما من استقطاب ولا دغدغة للمشاعر اليومية.في مصر كان عنوان الحراك «ارحل» بالعربية، في اليمن «برّع» ولها المعنى نفسه. هناك خصوصية لكل شعب تم استخدامها، ولم يأخذ شعب من الآخر، إذ على مَن سيهتف في التظاهرات أن يعطي مَن سيردد الشعار كلمة من منتوجه وتراثه اللغوي اليومي.أما «الشعب يريد إسقاط النظام»، فذاك شعار كلاسيكي جداً، ولا يمكنه أن يلهب الجماهير كثيراً، بل يمكن أن نرفعه على لافتة وعلى الجدران. لكنه دخل التداول الشعبي الساخر «كالشعب يريد هذه الأكلة».. هناك طرافة وعمق في المشهد المصري.• بالنظر إلى «سيميائية الشعار»، لم تغب البصمة المصرية عن اللافتات والصور والغرافيتي.. وطرافة المصري كانت الحاضر الأول في كل مكان. هل برأيكم كانت عفوية الشعار سبباً أساسياً لنجاحها في تحقيق مبتغاها، وهل يمكن لروح الدعابة أو الطرافة رسم منحى مصيري ومستقبلي وثوري إلى هذا الحدّ حتى تمكنت من الإطاحة بحاكم وخلع آخر؟ـ أوافق على كل ما ذكرته، ولكن لنكن أيضاً واقعيين وعقلانيين. فالشعار السياسي تحوّل على أيدي المصريين وشباب الثورة المصرية إلى فعل سياسي، ولكنه لم يصنع الثورة المصرية فالتوازنات السياسية هي التي تدخّلت.الشعارات، كانت النافذة البلاغية الشعبية، وهي إحدى المحفزات وإحدى وسائل لفْت النظر وتسليط الضوء على الحراك المصري. هناك مسارات أخرى سياسية وعسكرية وأمنية وإيديولوجية تداخلت وأوصلت إلى ما نحن عليه في العالم العربي. وأعتبر أن روح السخرية والطرافة كان لها دور في صوغ خطاب الاحتجاج المصري الذي تميّز عن كل الخطابات العربية الأخرى لعمقه وطرافته وارتباطه بواقعه.في لبنان على سبيل المثال هناك شركات علاقات عامة وترويج إعلاني (وقفت وراء شعارات التحركات الشعبية)، في ما في مصر كُتبت شعارات على رغيف خبز: «هذا هو كنتاكي ميدان التحرير». في المحصلة، روح السخرية من الذات ومن الآخر كانت حاضرة، وهي التي كانت العمود الفقري للشعار السياسي، ولذلك نجح. فضلا عن نهله من التراث اليومي، لتصل الرسالة بوضوح إلى كل المصريين بمن فيهم الفلاح وعامل المصنع وربة المنزل.• المجتمع المصري مؤلف من عدة فئات وعدة قطاعات، حتى أن طريقة صوغ الشعارات تبيّن هذا الأمر. في هذا الإطار وبعد الدراسة التي أجريتها، ما الفارق بين الشعار الذي يصوغه الناشط الحقوقي والشعار الذي يطلقه العامل في الميدان. وهل برأيك فلسفة الشعار تقوم على مزاوجة بين هذه الأفكار والمستويات العلمية؟ـ الناشط الحقوقي لديه مطلب ذهني معيّن يكتبه بعقل بارد وبشكل مباشر مع محافظة على الكلمات بالعودة إلى المراجع، بينما العامل أو الطالب المصري الجامعي، لديه معاناة سيولد الشعار من رحمها. والشباب كانوا يعرفون أين مفاصل المجتمع المصري، الفضائح والصفقات، وفصّلوا عليها السخرية المصرية المُرة التي شاركوا فيها بكلمات قليلة، قادرة على صوغ شعار يستقطب أكثر من الحقوقي والمنظّر السياسي العقائدي.• هل أنتم في صدد إعداد دراسة أخرى، بما أن المنطقة ملتهبة، فهناك الثورة السورية على سبيل المثال وخصوصاً أن سورية أقرب جغرافياً إلى لبنان ولغتها المحكية تشبهنا كلبنانيين أكثر. هل تثير شعارات الثورة السورية الحشرية نفسها؟ـ من الممكن جداً أن أقوم بدراسة عنها في المستقبل، وربما يكون هناك باحثون سوريون في هذا الصدد. ولكنني لم أقارب الثورة السورية لسبب بسيط ومبدئي بالنسبة لي، وهو أنها لم تنجلِ بعد. المشهد السوري التغييري الحقيقي لم ينجلِ.أنا توقفتُ عند 1700 شعار مصري جمعتها، درستها، وفكّكتها وعرفت ما هي دلالاتها والشيفرات الاجتماعية الموجودة خلفها وقارنتُ بينها، وعملتُ عليها بعقل بارد.هناك الكثير من الباحثين السوريين، الفرنسيين والأميركيين عملوا على شعارات الثورة السورية. فلدى السوريين ميزة جميلة لا بد أن تدرس، وهي الأهازيج الشعبية التي يستخدمونها في الأعراس والمناسبات وتم «تركيبها» على الثورة السورية. أنا لا أملك مدونة عن الثورة السورية للأسف، لأنطلق منها. وأنا أنجزت مع الجامعة اللبنانية دراسة عن الشعارات اللبنانية بين العامين 2005 و2010، ولم أجد طرافة في الشعار اللبناني، ولا ارتباطاً وثيقاً بالمعاناة الحقيقية للمجتمع اللبناني، كما هو الحال في مصر. ولا شك في أن الحراك المصري كان بصمة أساسية في تطور الخطاب الاحتجاجي العربي.