ما دام أديبنا الكبير مارون عبود «أبو محمد»، فلا غرابة أن يكون الشاعر الكبير الراحل جورج جرداق «أبو علي».هذا الوفاء لثقافة الأديان له سادته الكبار الذين ساهموا في توثيق عرى التواصل بين معتنقي الأديان المختلفة تحت سقف بلد واحد .عدد لا بأس به من المفكرين والأدباء في لبنان خصوصاً وعموم الوطن العربي بنسبة أقل، خاضوا هذا الغمار واعتبروا أن مهمتهم تبشيرية تنهج الأدب والفكر والحجج التاريخية درباً لصون الإنسان من نزعات العصبية والحقد بحيث تبقى الصلات الروحية أعمق وأصدق وأقوى .«أبو علي» .. عندما كان ينادى شاعرنا جرداق بهذه العبارة كانت أساريره تتفتح على عالم طفولي لم يغادره حتى بعدما ذرّف على الثمانين، وإن اعترف بوجود رديف له في نفسه لا يحتمل الخطأ، وسرعان ما يكتب أو يقول غير عابئ بأي ردة فعل منزعجة من الصور والتراكيب والعبارات التي تأتيه في كل وقت وأي وقت عفو خاطر حسده عليها سادة القلم في عصره وهذا يشمل ما كان ساخراً أو جاداً في نصوصه مثلما فعل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عندما أدرج أول كتب شاعرنا الراحل الحاضر جرداق (فاغنر والمرأة ) كي يكون من الكتب الواجب قراءتها لتلاميذ التخرّج.حدث هذا عام 50 للراحل الذي يشيّع جثمانه اليوم من كنيسة مار نقولا للروم الأرثوذوكس في الأشرفية إلى مسقط رأسه جديدة مرجعيون (جنوب لبنان) حيث ولد ونشأ وعرف الكثيرين من سكان المنطقة المتعدّدي المذاهب والمشارب، وكان يردد في جلساته الأنيسة دائماً: كم هو جميل لبنان بصورته التعددية التي تناقض فكرة وجود إسرائيل، وهو سبب كاف لها كي تحاول على الدوام زعزعة استقراره بحيث تبدو التجربة اللبنانية غير قابلة للحياة، وهو ما فشلت في زرعه وحصاده».قرأ «نهج البلاغة» في شبابه الأول، وعبّر عن ذهوله من لغته وموضوعاته وصياغته الأرقى في مرحلة النضج الأول عبر 6 مجلّدات ربطت بين الإمام علي بن أبي طالب وأهم الشؤون التي تشغل بال الناس (حقوق الإنسان ، القومية العربية، الثورة الفرنسية ، سقراط ، وعلي وعصره )، وكان له موقف حين قرأ جبران خليل جبران لاحقاً فعلّق بثقة «لقد قرأ جبران نهج البلاغة قبلي».مضت سنوات عديدة لم يبك فيها جرداق، وعندما علم بوفاة الملحن وجدي شيا اخيراً بكى بحرقة على موهبته الكبيرة وعلى شبابه. ومعروف أن ما كان يبكيه هو حال العرب منذ وعى على الدنيا ومع تقدّم السنوات كان يتأكد أنه على حق في ما ذهب إليه. وفي واحدة من الجلسات التي شاركنا فيها بمعية الفنان شيا أشار إلى أنه لم يعرف بأنه يكتب شعراً جيداً إلاّ حين استمع إلى قصيدته «هذه ليلتي» بصوت الكبيرة «أم كلثوم».