نلتقي اليوم مع الاستاذ إسحاق أبو سيدو حيث يتطرق معنا الى حياته العلمية والعملية فيذكر لنا دراسته في مدارس غزة متى بدأت ومتى انتهت بعدها يسهب لنا في الحديث عن مهنة التدريس التي قضى بها جل حياته ...فلنترك له ذلك:نحن من مدينة غزة فأسرتنا توالت اجيالها جيلاً بعد جيل على ارضها الطيبة ،أما حارتنا فكانت حارة التفاح واكتسبت تسميتها من كثرة ما يزرع بها من التفاح، فمدينتنا غزة رغم شهرتها بانها ميناء يطل على البحر الابيض المتوسط الا انها كانت ارضا زراعية خصبة فكان يُزرع بها القمح- الشعير- الذرة- العدس ولك المواد التموينية التي يكتال منها الناس في ذلك الوقت.الوالد رحمه الله كان من ملاكي الاراضي الزراعية وفي الوقت نفسه كان يعمل بوظيفة كاتب في الجيش التركي، وكان اعتماد غزة في سقي الاراضي وشرب الماء على الآبار الارتوازية التي كانت تحفر لهذا الغرض .استهللت دراستي ومشواري التعليمي في مدرسة الامام الشافعي وكانت مدرسة ذات شهرة وصيت عال لمن درس بها وعلّم بها وقضيت بها ثلاث سنوات ثم انتقل جميع من يدرس بها الى مدرسة الهاشمية وسميت بذلك نسبة الى الهاشم بن عبد مناف حيث أصبحت مدرسة الإمام الشافعي تجمع مرحلتي المتوسط والثانوية.وكان نظام التعليم عندنا المرحلة الابتدائية ست سنوات والمتوسطة ثلاثة والثانوية ثلاث، وكان النظام الاول يسير على النظام الانكليزي وادركت جزءا منه تم تحول الى النظام المصري.وحين انتقلنا الى المرحلة الثانوية وفقت بان تكون الثانوية التي ادرس بها هي ثانوية فلسطين التي تميزت بالهيئة الادارية والتعليمية.المعدلتخرجت في الثانوية بمعدل عال وكان عندي طموح وأمنية ان ادخل الكلية الحربية والذي هيأ لي هذا المعدل أنني حصلت على درجات عالية في الفيزياء والرياضيات والاحياء، وبالفعل بعد التخرج قدمت اوراقي والمستندات المطلوبة من اجل الالتحاق بالكلية الحربية وكان عدد المتقدمين معي 600 متقدم وبعد الفحص الدقيق والاختبار المكثف تم اختيار ثمانية افراد فقط و اعطاؤنا استمارة لكي نوقعها من اولياء امورنا فذهبت لوالدي لكنه رفض وقال لك خياران .اما كلية الطب أو الهندسة فعرضت عليه حلا وسطا بان التحق بالكلية الحربية وبعد التخرج ادخل كلية الطب واصبح ضابطا طبيبا ولكنه رفض رفضا قاطعا، وقال لا واذا قال الوالد لا فليس لنا في الامر من خيار ولكن الطاعة والامتثال فهكذا تربينا ولم اكن استطيع ان اخالفه لانني اريد ان اكسب رضاه فكنت احترمه كثيرا وما تربيت عليه انشأت اولادي عليه فما اخذته من والدي اوصلته لاولادي.العطاءحينما عملت واخذت اول راتب كان مقداره 12 جنيها اعطيته والدتي -رحمها الله- جميعه فأخذت جنيها وقالت هذا لاختك وجنيها آخر وهذا لاختك الثانية وجنيها لنفسها ثم أرجعت لي الباقي فأخذت ما بقي وذهبت به الى والدي فأعطاني بقدر ما اخذت امي واخوتي وزادني عشرة جنيهات .فالوالد اذا شعر بعطاء ابنائه تجده يعطي أكثر... وهكذا تعلّمت في حياتي ان الكبير له قدره واحترامه مهما بلغ الانسان من المراتب والوظائف.التدريسبدأت حياتي العملية مدرسا لمادتي التاريخ والجغرافيا حيث كان النظام يسمح لمن يحمل الثانوية ان يعمل مدرسا ،فكانت اول مدرسة ادرس بها في منطقة جباليا وهي منطقة زراعية تابعة لغزة وتبعد عنها 3 كيلو وكان الاهالي يرسلون لنا الفواكه حسب مواسمها ،ففي موسم التين يأتون لنا به وفي موسم الصبار التين الشوكي كذلك، واثناء عملي مدرسا كانت هناك دورات تدريبية وتعليمية من اجل رفع مستوى التدريس وهذه الدورات من قبل ادارة المعارف في غزة. وكان تدريسي في هذه المدرسة لمدة عام واحد وهو عام 1956.الكويتكان أخي خيري أبو سيدو قد سبقني الى الكويت وكان يعمل مدرسا في مدرسة المرقاب وهو ممن جاء الى الكويت عام 1953 وحين حضوري الى الكويت كان سورها لا يزال قائما يحيط بها فقدمت اوراقي لادارة المعارف وكان المسؤولون بها درويش المقدادي وعبدالعزيز حسين ورئيسها الشيخ عبدالله الجابر.وبعد ان تم قبولي مدرسا تم تعييني في مدرسة الصباح مدرسا لمادة الرياضيات وكان ناظرها محمود سعد الدين- رحمه الله- وهو من اهل صفد ونعم الرجل وكان الوكيل عبدالعزيز المسلم وكان الدوام الدراسي على فترتين لكن الفترة الثانية هي للتربية البدنية والفنية. والمدرسة كانت للمرحلة الابتدائية وكان هناك عدد من ابناء الشيوخ يدرسون بها واذكر انني منحت كتاب شكر وعلاوة مئة روبية، وذلك لان نسبة نجاح الطلاب في الرياضيات كانت عالية 98 في المئة.أما سكني خلال هذه الفترة فكان في منطقة الفروانية ووسيلة ذهابي وايابي كانت سيارة الاجرة والفروانية كان يطلق عليها الدوغة وكانت قليلة المرافق والابنية، وكنا ندفع روبية للذهاب، وروبية للعودة وكانت سيارات الاجرة متوافرة وكان أغلبها فورد أحمر.الغربلليكان عبدالعزيز الغربللي صاحب الشركات يريد موظفين للعمل معه، فتقدمت للعمل عنده واجرى لي اختبارا على الآلة الكاتبة حيث طلب مني كتابة مقال عن قناة السويس باللغة الانكليزية ولما كتبته اعجب بي وعرض عليّ العمل عنده براتب ثمانمئة وخمسين روبية قابل للزيادة ومن ثم ادير شركاته جميعها، لكنني نظرت الى العطلة الصيفية التي كانت تمنحها لنا ادارة المعارف فهي تهيئ لي السفر الى اهلي في غزة ثلاثة اشهر اجلسها مع والدي ووالدتي فهما كبيران في السن.العضيليةانتقلت من مدرسة الصباح الى مدرسة العضيلية في الفصل الدراسي من عام 1959 وكانت مدرسة العضيلية فتحت قبل مجيئي اليها بعام وناظرها حينما انتقلت اليها احمد صادق ووكيله علي بدوان وكلفت بها بأن اكون مدرس فصل ادرس اربع مواد وهي «العربي والرياضيات، والدين، والعلوم»، ثم اقتصرت على مادتي الرياضيات وبعد فترة من الزمن جاء ابراهيم الصعيدي ناظرا على مدرسة العضيلية... ثم اصبحت للمرحلة المتوسطة فانتقلت الى مدرسة زيد بن حارثة، ومكثت بها ست سنوات بعدها اصبحت موجهاً فنيا وعينت في مدرسة حذيفة بن اليمان في الجهراء ومنها انتقلت الى مدرسة العميرية وظللت بها حتى عام 1990، وخلال عملنا في سلك التدريس التحقنا في كثير من الدورات التي تعملها لنا الوزارة وهي في نطاق عملنا التربوي والمهني ومنها دورة الرياضيات الحديثة .انتسبت الى جامعة بيروت العربية في تخصص التاريخ وكنت الثاني على الدفعة التي انا بها كان معدلي 138 من 140، والاول كان طالبا في الجامعة وقد درست مادة التاريخ بعدما حصلت على الاجازة الجامعية لكن رجعت مدرس رياضيات بعدما انتقلت الى مدرسة «زيد بن حارثة».الموجهحينما أصبحت موجها انتقلت الى مدرسة حذيفة بن اليمان في الجهراء وكنت أقوم بعملي بكل دقة واوجه المدرسين بما هو في صالح التعليم وكل شيء أرى ان المدرس بحاجة الى معرفته اقوم به حتى كيفية التحضير وطريقته كنت اعلّمها للمدرسين الذين عندي في القسم... وفي بداية العام الدراسي اعمل اختبارا للطلاب واطلع على مستواهم ثم اوصي المدرسين بذل ما في وسعهم وبطبع مجيء التلاميذ بعد العطلة الصيفية ينتج عنه ضعف في المستوى وانا من خلال هذا الاختبار اوصي المدرسين برفع مستواهم، واهم شيء هو التطبيق العملي وجعل الدرس درسا عملياً يجذب انتباه الطلاب الى جانب استخدام الوسائل الايضاحية التي تسهم في تقريب المعلومة من عقول الطلاب وكل شيء يتم تحديثه من قبل الوزارة على الفور اطبقه وانفذه...اذكر حينما انتقلت الى مدرسة العميرية «الابتدائي» جاءتنا نشرة تطلب منا ان نستبدل كلمة«متوازي الاضلاع»بكلمة أخرى وهي «مكعب أو شبه مكعب» وانا من طبيعتي احتفظ بكل شيء يأتي من الوزارة ،حيث جعلت ملفا خاصا لكل النشرات والمكاتبات التي تعممها الوزارة.وبعد هذه النشرة بيومين جاءنا وكيل الوزارة عبدالله الخضري ودخل احد الفصول التي كنت موجها عليها واستغرب من هذا المصطلح الجديد فاستنكره ثم طلبني عند ناظر المدرسة وقال ما هذا المصطلح الجديد الذي يقوله المدرس في الفصل؟ فقلت له :انتظر قليلا وذهبت إلى المكتب واتيت في التعميم فلما رآه قال في هذه السرعة تم تطبيقه عندكم! ثم وجه الكلام إلى الناظر وقال احتفظ في هذا الموجه ولا تفرط به.العقابحينما كنت مدرساً في العضيلية سنة 1959 قام احد الطلبة وتلفظ في اساءة إلى احد زملائه في الفصل وهذه الاساءة غير مقبولة لا عرفا ولادينا (.......) فقمت وعاقبته فأخبر والده بانني قد عاقبته بالضرب فجاء إلى ادارة المدرسة وقدم شكوى بحقي فاستدعاني الناظر فلما جئت فاذا ولي الامر ممتلئا غضباً فبادرني بالسؤال لماذا ضربت ابني؟ فقلت له لن اجيب عن سؤالك ،اجعل ابنك هو من يقول لك لماذا عاقبته؟ فسأل ابنه فأخبره بما وقع منه من اساءة في حق زميله في الفصل... فاستدار ولي امر الطالب إلى الناظر وقال له يا أبا جمال هذا المدرس تمسك به ثم أصرّ على ان نقبل دعوته لنا على عشاء عنده في بيته.الجدرياشتركت انا ومجموعة من زملائنا في حملة التطعيم ضد الجدري التي قامت بها ادارة الصحة .كنا نحن المدرسين متطوعون في هذا العمل ،فادارة الصحة جهزت فرقا مزودة بعدد من الممرضين والممرضات ونحن نرافقهم لكي نضع ختما على من قام في التطعيم حتى نميزه عن من لم يطعم... كانت الناس تسكن بيوتا من عشيش متناثرة وكثيرة ونحن نقوم بتوعية الناس بأهمية التطعيم .البناتأراد الاستاذ ناظر مدرسة زيد بن حارثة ووكيله محمود طبيب ان يسعيا في افتتاح مدرسة بنات في منطقة جليب الشيوخ اسوة بمنطقة الفروانية، فاشترطت ادارة المعارف بان يأتوا بموافقة خطية من اولياء الامور فرافقتهم في جولات وزيارات متعددة للاهالي حتى نقنعهم بأهمية تدريس البنات، فكنا نزور الدواوين ونناقش الاهالي ونحاول إقناعهم... فالناس في تلك الايام لم يكونوا محبذين دراسة البنات والحمد لله وجدنا منهم تجاوبا ووقعوا معنا على الطلب وفتحت اول مدرسة في جليب الشيوخ واسمها مدرسة «خديجة» سنة 1960.التلاميذالشيخ منصور الأحمد الجابر من تلاميذي و النائب السابق رجا الحجيلان وقد وصل إلى مرتبة جيدة في الوزارة وأصبح له منصب بها، والحلو فرهود أيضاً من تلاميذي وكثير من الطلاب الذين درّستهم لا تحضرني أسماؤهم.قائد حمد الظفيري كان تلميذاً نجيباً ومميزاً عندي في مدرسة العضيلية، وقد طلبت والده ذات يوم وأخبرته بأنني متوقع لابنه مستقبلاً مشرقاً... ومرت السنون وكلمته في الهاتف النقال فعرفني من صوتي ثم دعاني لزيارته فزرته.الملاكنت أقف في طابور الانتظار في إدارة الجوازات من أجل معاملة تخص ابني فإذا بضابط ذات رتبة كبيرة يضع «البريه» الذي فوق رأسه على وجهه ويخفيه ويسألني لماذا واقف هنا؟ قلت له :معاملة لابني فقال لماذا لا يأتي هو ثم طلبني أن أذهب معه إلى مكتبه فرفع ما كان على وجهه فعرفته انه أحد تلاميذي فعانقني وسلّم علي وطلب لي (قهوة وشاي) وقال كل ما تريد سنلبيه لك.المقوماتالمدرس الناجح هو من ينزل إلى مستوى الطالب، فالطالب قدم إلى المدرسة لكي يأخذ رسالة المدرس التي هي في الدرجة الأولى انسانية، حيث يخرج من يعيش في الجهل إلى الحياة العلمية ...فأشرف مهنة هي التعليم وهي شاقة في الوقت نفسه.الاختيارتم اختياري لكي أشارك في تأليف المناهج الدراسية لمادة الرياضيات وفعلاً ساهمت في وضع الكتب والمناهج المناسبة للمرحلة الابتدائية وكان ذلك عام 1989.بعد تركي لمهنة التدريس سنة 1990 عملت في تجارة مع طارق مدني فترة من الزمن ثم تفرغت لحياتي الشخصية.عابدينعابدين بسيسو... كان يكبرني في السن وكان رجلاً مميزاً بأخلاقه الفاضلة ومعاملته الكريمة وروحه الوطنية، فكان وطنياً جداً وكان يقود المظاهرات التي كانت تندد بالاعتداءات اليهودية.وقف أمام المظاهرات أحد الضباط وقال من يتقدم سيرمى بالرصاص فنزع عابدين بسيسو قميصه وقال إذا كنت رجلاً اطلق النار لأنك لو كنت رجلاً صادقاً لأطلقت النار على اليهود وليس نحن أصحاب الحق...حقاً كان عابدين رائعاً ووطنياً صادقاً.الزواجأهلي هم من اختاروا لي زوجتي وخطبوها لي وقد تم عقد القِران والزواج في غزة ثم قدمنا للكويت وسكنت منطقة الفروانية والحمد لله رزقت بأربعة أولاد وبنتين، والأولاد أقل واحد منهم عنده شهادة ماجستير، أما البنات فهما جامعيتان... أما أول حجة لي فكانت سنة 1980 ثم تتابعت الحجات وكل سنة أؤدي مناسك العمرة.