بعد نحو أربع ساعات من العمل المتواصل، شعر ريتشارد (أحد موظفي قسم خدمة العملاء في شركة «زابوس – ZAPPOS» (شركة الأحذية والملابس العالمية على شبكة الإنترنت) ببعض التعب والإرهاق، فما كان من الرجل إلا أن أطفأ حاسوبه وتوجه إلى غرفة النوم، أو ما يعرف بـ»غرفة القيلولة أثناء العمل»، لينال قسطاً من الراحة.نصف ساعة كانت كافية لإعادة النشاط إلى جسد ريتشارد المرهق، والذي عاد إلى مكتبه مرة جديدة بعد الاستراحة، وكأنه حضر للتو إلى العمل، وربما بنشاط أكبر من ساعات الصباح.على بعد بضع خطوات فقط من مكتب ريتشارد، لم يرق لزميلته سارة التي تعمل في قسم التصميم أن تبقى في مكتبها تسع ساعات متواصلة (طيلة فترة دوام عملها)، فحملت السيدة الثلاثينة كمبيوترها، وانتقلت إلى الكافيتريا، (حيث الأكل والشرب والقهوة وتوابعها) لاستكمال ما تبقى أمامها من رسومات وتصاميم، في جو ترى أنه يساعدها أكثر من سابقه على الإنجاز بشكل أفضل.أما رالف (21 عاماً)، والذي يعمل في قسم الموارد البشرية، فترك هو الآخر مكتبه، ومضى إلى صالة الألعاب، ليرفّه عن نفسه قليلاً بعيداً عن عالم الأرقام وما إلى هنالك من ملفات وأوراق تنتظر بعض التدقيق والمراجعات.صدّق أو لا تصدّق، هذا الأمر يحدث بالفعل في إحدى الشركات الأميركية التي تتّخذ من مدينة لاس فيغاس مقراً لها، فهنا لا يشعر الموظف بأنه يعمل بالشكل والطريقة التقليدية التي نعرفها، وإنما هو يعمل ويمرح وينام ويأكل في آن معاً، وفي مكان واحد، وكأنه في منزله تماماً.«زابوس»«زابوس» (اسم الشركة)، هي بكل تأكيد ليست المدينة الفاضلة التي تحدث عنها ابن خلدون، ولكنها شركة تجسّد نموذج عمل جديدا، بدأ يشق طريقه في أوساط الشركات الأميركية، التي باتت مقتنعة أكثر من أي وقت مضى أن تحسين إنتاجية الموظف، وبالتالي تطوير أداء وتحسين إنتاجية الشركة بشكل عام، لا يتم إلا عبر تحسين مزاج ونفسية الموظف أثناء الدوام، لا بل حتى خارج أوقات الدوام.التركّيز داخل أروقة «زابوس» على الجو الأسري، والروابط العميقة بين الموظفين والمديرين، ليس كلاماً نظرياً يقرأه الموظف على قصاصة ورق بعيد توقيعه عقد العمل، وإنما هو أفعال واقعية تترجم في كل يوم من أيام العمل.لم يعد لإنذار الموظف، وتهديده تارة بالخصم وطوراً بالطرد، مكان في «زابوس»، فإذا قصّر الموظف في عمله، ولوحظ أن ثمة خللاً أو تراجعا في أدائه، فهذا يعني شيئا واحدا فقط، يعني أن ثمة ما يقلق ويشغل بال هذا الموظف (الإنسان بالدرجة الأولى، وليس الماكينة)، لذا جاء دور المشرفة الاجتماعية، التي تجتمع بهذا الموظف و»تدردش» معه بطريقة ودية، وتحاول بطريقتها الخاصة فهم الأسباب التي أدت إلى تراجع أدائه وما يشغل باله في العمل أو خارج نطاق العمل، وعلى أساس هذه الجلسات والنقاشات تكون «الوصفة» لإعادة الأمور إلى سكنتها الصحيحة.خلال جولة «الراي» داخل أروقة «زابوس» التي كانت عبارة عن مشروع أو حلم صغير في ما مضى، قبل أن تصبح شركة ضخمة وعملاقة، لمسنا مدى التفاهم والتجانس بين طاقم العمل، الذي يزيد عدده على نحو1500 موظف، وهو آخذ بالنمو شيئاً فشيئاً.توني هشيهقد لا يكون توني هيشه هو الرائد أو المرجع الفعلي لهذه النظرية، فالكثير من خبراء الاقتصاد والأعمال كتبوا مجلدات تتناول كيفية تحسين وتطوير أداء الموظف بكل السبل المتاحة، بيد أن هيشه الذي يشغل اليوم منصب الرئيس التنفيذي في «زابوس» خرج من الكتب والمجلدات ومضى نحو تطبيق النموذج العملي.يتحدث الرجل البالغ من العمر 41 عاماً فقط، أمام الناس التي تأتي إلى فيغاس من مختلف الولايات الأميركية الأخرى، بهدف الاستماع إلى تجربته غير المألوفة، بشغف كبير عن نموذج العمل هذا، ويرى أنه قادر على صنع «المعجزات»، وتغيير الكثير من المفاهيم القائمة و»البالية».قبل انضمامه إلى «زابوس» عمل هيشه في عدد من الشركات بينها «أوراكل»، ولكنه يؤكد أن بيئة العمل في هذه الشركات لم تكن تلك التي يبحث عنها على الإطلاق، بيد أن الخطوة الأهم في مسيرة الرجل المهنية والعملية، كانت تأسيسه وثلة من الزملاء شبكة الإعلان على الإنترنت والمعروفة باسم (LinkExchange)، والتي استحوذت عليها شركة «مايكروسوفت» عام 1999 مقابل 265 مليون دولار.لم يكن هشيه الذي حصل على شهادة في علوم الكمبيوتر من جامعة «هارفارد» عام 1995 (مولود لأب وأم تايوانيّين) متميزاً في مجال الدراسة والكمبيوتر فحسب، بل كان من الواضح أنه متميز في طريقة تفكيره ونظرته لمجمل الأشياء التي تجري من حوله، فهو وأثناء دراسته الجامعية كان يبيع البيتزا والمعجنات إلى زملائه.بدا للبعض من رفقاء هيشه حينما كان يحدثهم عن حلمه في تطوير بيئة العمل وجعلها أكثر إنسانية، أنها أفكار وردية وستبقى قابعة في مخيلته إلى الأبد، ولكن مع ثبوت صحة وصوابية وجهة نظره من خلال تجربته في «زابوس»، التي لم تكن إيراداتها تتجاوز بضعة ملايين من الدولارات فقط، وأصبحت اليوم تزيد على المليار دولار، يرى هؤلاء أن نظرية زميلهم كانت وردية بالقول والفعل، فالبيئة الأكثر إنسانية قد تكون الأكثر إنتاجية أيضا.توني هيشه ومن خلفه «زابوس» حديث الناس، ليس في لاس فيغاس وحدها فحسب، وإنما في مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، نظرية الرجل لم تعد مجرد حبر على ورق، بل باتت واقعاً ونموذجا تسعى الشركات الأميركية كافة لتطبيقه، في سبيل زيادة أرباحها بالدرجة الأولى.لم تعد أميركا تعول على النمط الاقتصادي الرأسمالي، وكل تلك الأفكار القديمة نسبيا، أميركا اليوم تعول فقط على هيشه وأقرانه في مختلف المجالات والقطاعات، أميركا تعول على «التشاركية» في أصغر وأدق التفاصيل، لتعزيز الإنتاجية والقضاء على البطالة، وإيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية وغيرها من الأزمات من بوابة «الاقتصاد التشاركي».
اقتصاد
هكذا يغزو مفهوم «التشاركية» أميركا في عصر ما بعد الرأسمالية (2 من 3)
النوم واللعب والترفيه ... وصفة سحرية لزيادة الإنتاجية
11:38 م