في مكتبه القديم في حرش تابت - سن الفيل (شرق بيروت)، حيث الكتب المكدّسة في كل غرفة تشهد على نوع من السياسيين يكاد يغيب، يستقبلك الوزير السابق جان عبيد بلطافته الدائمة، يحدّثك عن زمن الكبار، وأكبرهم الرئيس الراحل فؤاد شهاب. لا تنتظر كثيراً حتى تكتشف أنك في حضرة مؤمنٍ عميق دون أي مسحة تعصّب، وأمام مثقّف كبير دون تكلّف أو ادّعاء.عن المكان الذي أنتَ قادم منه، يريد أن يعرف الكثير وبالتفاصيل، ولا سيما اذا المكان المقصود هو طرابلس. انها مدينته التي يحب أن يستمع الى أخبارها وهمومها وأحوال ناسها وقواها السياسية بشغف لا يقدر أن يخفيه عن وجهه، أو عن دقة استفساراته وملاحظاته.طرابلس، بالنسبة الى جان عبيد هي البدء. وربما قصره المميّز في أعلى جبل تربل، ليس بعيداً عن العين التي تريد أن تكحل كل يوم نظرتها بالمدينة التي كبر فيها وكبر معها، والتي يؤكد أنه «يكبر بحبّه لها ولأهلها».حين حدّثناه خلال زيارة لـ «الراي» الى مكتبه عن شبه إجماع حول كونه «الرئيس المفترض للجمهورية»، ازداد همساً بأنه لا يريد الكثير من الإعلام، لأن الضوء المبهر في بعض الأحيان قد يحرق الألوان في الصورة الموعودة. ولكنك تعرف بسلاسة ملحوظة أنه استقبل في جلسة خاصة السفير السعودي، وأن السفير الأميركي يعرف جيداً الطريق الى مكتبه، وأن السفير الإيراني مرّ من هنا، وان اللقاءات مع الزعامات السياسية لا تنقطع. وصورته المعلنة بتقطع عن لقائه من وقت لآخر بالبطريرك الماروني، إنما تخفي وراءها بحراً من الاتصالات واللقاءات والنشاطات غير المعلنة.يحدّثك بقلق ظاهر: الوطن في خطر. الوطن في فراغ. الجغرافيا التي تحكمه، شئنا أم أبينا، تشتعل من الحدود البعيدة في العراق الى الحدود القريبة في سورية. لذا كل الجهود يجب أن تنصبّ على درء المخاطر وملء الفراغ. فالفراغ في السلطة، أي سلطة، قاتل. قد تعبئه القوى العبثية، وهي كثيرة، وهي حاضرة للعبث بالوطن والمواطن.يحب الوزير جان عبيد أن يستذكر درسيْن مفيديْن جداً، من تجربة رئيسين راحلين، يجاوران بلدته الصغيرة (علما) الواقعة في شمال لبنان: الأول، صار رئيساً بديموقراطية الصوت الواحد، وهو سليمان فرنجية. والثاني، كمَن حفر الجبل بإبرة لينقذ وطنه، قبل أن يستشهد في ذكرى الاستقلال، وهو رينيه معوض. ويستنتج: اذا عدنا الى اللعبة الديموقراطية واحترمنا أصولها وخصائصها، واذا جهدنا بحرفة وذكاء من اجل الوطن، يمكن لنا - رغم الحريق المحيط بنا - أن نصل بالسفينة الى برّ الأمان. ولكن، من جديد، نعود الى نقطة البداية: لا بدّ من ربّان ماهر ووطني وجامع يدير الدفة، بموافقة الجميع ومساعدة الجميع.عندما كان وزيراً للتربية، أقرت الحكومة - بناء على مشروع مقدم منه - أول وآخر سلسلة للرتب والرواتب للمعلمين، ما جعل هؤلاء يُسمّون حتى الساعة بـ «جيش جان عبيد»، اذا صح التعبير.وعندما عُيّن وزيراً للخارجية، أعاد هذه الحقيبة الى عصرها الذهبي، وأعاد اسم لبنان الى الساحة الدولية.وعندما جاء قرار التمديد للرئيس اميل لحود، في عزّ الوصاية السورية، امتنع عن حضور الجلسة، مسجلاً اسمه في «لائحة الشرف»، ليس في سياق صراع مع أحد، وانما احتراماً للدستور واعتراضاً على المساس بمكوّناته، أيّا كان وزن الداعي الى التمديد (وهو آنذاك الرئيس بشار الأسد)، وأيّا كانت الموجبات والأسباب (وقد بُررت آنذاك بالحفاظ على الوحدة الوطنية، وما شابه).اسم جان عبيد يُطرح بقوة وجديّة عند كل استحقاق رئاسي. هو الذي لا يملك سلطة عسكرية، كما حال قائد الجيش جان قهوجي، أو سلطة مالية مثل حال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أو سلطة حزبية كما المرشحيْن العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع.فمن أين يستمدّ قوة «المرشح الدائم»، وما هو «سرّه» الصغير الكبير؟قد يجهل الكثيرون مكمن هذا «السرّ»، كما يجهد الكثيرون في سبيل استحضار التفسيرات والتأويلات، عدا عن أن فكّ لغزه ربما سيبقى عصيّاً. غير أنه يمكن «لملمة» بعض الأجوبة من هنا وهناك، على لسان هذا المسؤول أو ذاك الزعيم، أو من شيوع خبر زياراته المفاجئة والمكررة الى عواصم القرار، طالما أن الجزء الأكبر من اللعبة اللبنانية يبقى في مطابخ وتقاطُعات العواصم القريبة والبعيدة.وزير الداخلية نهاد المشنوق يقول بالفم الملآن: «مرشّحي الشخصي جان عبيد»، والنائب وليد جنبلاط سبق أن سجّل اعتراضاً تاريخياً على استبعاد عبيد عن اللائحة التي شكّلها رؤساء حكومات وأثرياء في طرابلس في انتخابات 2009 النيابية، والرئيس نبيه بري يستقبله مشيراً في ذلك الى نوع من التبنَي الدائم له كـ«مرشح تسوية» شبه وحيد للأزمة الرئاسية الراهنة، وبكركي تدرج اسمه أولاً في قائمة الأسماء المقبولين من الكنيسة المارونية وصولاً الى الفاتيكان، والرئيس فؤاد السنيورة يجد فيه شريكاً دائماً في البحث عن نقاط تجمع ولا تفرّق في البلد الصغير.ولا تتوقف قائمة السياسيين الزعماء وغير الزعماء الذين يكادون يردّون على العقد القائمة، بجملة بسيطة: جان عبيد.. أو لا تسوية!«الرئيس» جان عبيد، يستقبلك في قصره في تربل أو في مكتبه القديم في سن الفيل، بالكثير من اللطافة وحُسن الضيافة، وبالكثير من الوقائع الماضية والحاضرة، التي تجعلك تقول: لبنان في عافية وخير.. طالما هناك سياسيون كبار، أمثال جان عبيد، يسعون لرفع الغشاوة عن عيون الوطن الصغير، ويزيدون من بقع الضوء في عتمة الحاضر والمستقبل القريب.