هل سمعت بأحدٍ يؤجّر بيته خلال سفره صيفاً، وآخرٍ يؤجّر سيارته لساعات قليلة لأنه لا يحتاج إليها خلال وجوده في الدوام، أو أثناء ساعات نومه؟الفكرة التي تبدو هاربة من كتاب «بخلاء الجاحظ»، وتطبقها قلّة من الوافدين المحدودي الدخل، باتت وجهاً من وجوه نظرية اقتصادية كبيرة تغزو أميركا في عصر ما بعد الرأسمالية.فبينما ترقد غالبية أحلام أصحاب المشاريع الصغيرة في الكويت، بين المطاعم ومحلات الهواتف، بات زخم مشاريع صغيرة من نوع آخر يحرك عجلة اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية برمته. بإمكانك هنا أن تتشارك مع أهل الحي أي شيء يمكن مشاركته، البيت، السيارة، آلة قص العشب... الخ.ينتظر المواطن الأميركي طويلاً، قبل أن يرى «طفله الصغير» (مشروعه الصغير) يولد ويحبو، إلى أن ينمو شيئاً فشيئاً حتى يصبح يافعاً وقادراً على إضافة الكثير لعالم المال والعالم ككل في الداخل والخارج، فهو يرسم طريقاً واضحاً معتمداً أولاً وأخيراً على بعض الجهود الفردية (التشاركية) له ولبعض الأفراد الآخرين من دون اللجوء إلى الحكومة وقروضها.وفي حين يطلق عالمنا العربي على هذا النوع من الأعمال والحرف «المشاريع الصغيرة»، يبدو الأمر مختلفاً في الولايات المتحدة، التي بدأت تشهد ثورة عارمة تتمحور حول نوع ومفهوم جديد نسبياً في علم وعالم الاقتصاد والأعمال، ألا وهو «Sharing Economy»، أو الاقتصاد التشاركي.ما «الاقتصاد التشاركي»؟يؤكد أستاذ المعلوماتية والعمليات الإدارية في كلية «ستيرن» لإدارة الأعمال بجامعة نيوريوك، آرون ساندرا راجين، أن «الاقتصاد التشاركي» أو (اقتصاد المشاركة أو الاقتصاد التعاوني)، هو «نظام اقتصادي مستدام يقوم على مشاركة الأصول البشرية والمادية، ويشمل الإبداع والإنتاج والتوزيع والاتجار والاستهلاك التشاركي للبضائع والخدمات بين مختلف الأفراد والمنشآت التجارية».ويبين راجين خلال لقائه وفداً صحافياً دعته وزارة الخارجية الأميركية لزيارة عدد من الولايات للإطلاع عن كسب على ماهية وفكرة (الاقتصاد التشاركي)، أن النظام الجديد يأخذ العديد من الأشكال، بيد أنه يعمل على تعزيز تقنية المعلومات من أجل تزويد الأفراد والمؤسسات الحكومية وغير الربحية بالمعلومات التي تساعد في توزيع البضائع والخدمات ومشاركتها وإعادة استغلال الطاقات المهدورة والفائضة بشكل أكبر وأفضل.وبعيداً عن المفهوم أو التعريف الاصطلاحي الصرف لهذا الاقتصاد، يضرب راجين مثلاً، عملية استئجار السيارة بدلاً من شرائها، فهذه العملية قد تكون بسيطة كما هو مألوف لدى غالبية المجتمعات، إلا أنها خرجت عن إطار ما هو شائع ومتداول من خلال «الاقتصاد التشاركي»، فمثلاً هناك رجل يملك سيارة، يقابله رجل آخر لا يملك سيارة، وبناء عليه ما المانع من أن يستفيد الرجل الذي لا يملك السيارة، من السيارة في الوقت الذي لا يحتاجها صاحبها؟ يتساءل راجين.قد يبدو الأمر معقداً بعض الشيء، ولكن التعمق في هذه الفكرة قد يبسط الموضوع أكثر، راجين يوضح أن الأمر لا يتم عن الاستئجار التقليدي للسيارة، وإنما عن طريقة خدمة جديدة بدأت بالفعل تشهد رواجاً كبيراً في أميركا، ألا وهي «Uber».« Uber» نموذجاً«Uber» أو «أوبر» هي عبارة عن شركة بدأت بجهد ذاتي بسيط عن طريق تبادل الأفكار أو «الاقتصاد التشاركي»، واليوم باتت «أوبر» منتشرة على كامل التراب الأميركي تقريباً، وهي توسع أعمالها إلى الخارج.تقوم فكرة «أوبر» على ما يسمى «خدمة مشاركة الركوب»، أي كما سبق ذكره أن يبادر صاحب الحاجة (السيارة في هذه الحالة) إلى منحها أو تقديمها للآخرين في الوقت الذي لا يحتاجها، مقابل الحصول على مصدر دخل جديد، وخلق فرصة عمل جديدة (السائق الذي يقود السيارة)، والأهم السعر المناسب والتنافسي بعيداً عن رأسمالية الشركات الكبرى التي تتحكم بالقطاعات الاقتصادية كبيرها وصغيرها.وبالعودة إلى «أوبر»، مشاركتك في هذه الفكرة تدر عليك الكثير من الأموال في الوقت الذي لا تكلفك هذه المشاركة الكثير، فقط اشتراك بسيط على تطبيق خاص على هاتفك الذكي وستكون الأمور على خير ما يرام، بإمكانك بعيد اشتراكك في هذا التطبيق ملء الاستمارة الخاصة بساعات فراغك والساعات التي يمكن لك أن تتخلى عن السيارة، مع تحديد أماكن تواجدك حتى يتسنى الاتصال بك بحسب خريطة تواجد الزبائن، الذين يقومون بدورهم لحظة حاجتهم إلى سيارة، بالدخول إلى الموقع الإلكتروني للشركة (www.uber.com) وتحديد أماكن تواجدهم، وبناء عليه يتم إرشادهم إلى إحدى السيارات المشتركة في الخدمة والمتواجدة في الأماكن عينها حتى تكون بخدمتهم في غضون دقائق قليلة فقط.قد يتساءل البعض، أولا يشبه هذا الأمر ركوب سيارة الأجرة أو «التاكسي»؟، بلى هو كذلك يجيب أستاذ المعلوماتية والعمليات الإدارية في كلية «ستيرن» لإدارة الأعمال بجامعة نيوريوك، مستدركاً هو ركوب سيارة أجرة بمفهوم جديد، مفهوم وفّر مصدر دخل جديد لشخص ما، مقابل خدمة أرخص لشخص آخر، بالإضافة إلى منح وظيفة بدوام جزئي أو كلي ربما لشخص ثالث (سائق السيارة)، وهكذا ثمة دورة اقتصادية جديدة تنشأ بفضل تفعيل الأفكار البسيطة حتى تصبح كبيرة خلال الأشهر والسنوات المقبلة.السكن نموذج آخربما أن «الاقتصاد التشاركي» يقوم على استغلال التفاصيل البسيطة والدقيقة، يطرح راجين نموذجاً آخر عن هذا النوع من الأعمال، ألا وهو السكن أو الإقامة لأيام معدودة ومحددة في أحد المنازل.الفكرة تتمحور حول قيام صاحب أحد المنازل، ومرة أخرى من خلال استخدام تطبيق معين على هاتفه الذكي، بالإعلان عن توفير منزله الخاص للإيجار خلال فترة محددة يكون خلالها خارج المنزل (في إجازته السنوية مع العائلة)، أو ذهابه لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في مكان آخر غير الولاية التي يعيشها فيها، وعليه ثمة زبون يبحث عن مكان ليسكنه خلال فترة محددة بمواصفات محددة وبسعر مناسب، وهكذا يتم إرشاد هذا الزبون أيضاً عن طريق استخدام التطبيق نفسه إلى المنازل المتوافرة وأسعارها، وهكذا يأخذ كل منهما حاجته دون التأثير على الآخر، فالأول (صاحب المنزل) استفاد من دخل إضافي وجديد، فيما الثاني (الطرف المستأجر) استفاد من المنزل بالمواصفات التي يرغب بها وبآخر مناسب يقل بأشواط عن أسعار الفنادق، وهكذا مرة أخرى نرى أن عملية صغيرة من ضمن مئات آلاف العمليات الصغيرة المشابهة التي تحصل في قطاعات عديدة (السيارة والسكن وغيرها) تحرك عجلة اقتصادية أكبر من خلال ما يعرف بـ «الاقتصاد التشاركي».على أن تطبيق هذا المفهوم لا يبدو أنه سيكون يسيراً في بلداننا العربية، وخصوصاً الخليجية منها، إذ ثمة عوائق عديدة ليس أقلها الثقافة المتوارثة في المجتمع العربي، فمن ذا الذي سيقوم بتأجير سيارته الخاصة؟ أو من ذا الذي سيقوم بتأجير بيته وغرفة نومه الخاصة إلى شخص لا يعرفه؟لا شك أن ثمة معوقات وصعوبات كبيرة في هذا الخصوص، ولكن راجين يشير ويؤكد أن لكل مجتمع نموذج أعمال خاص به، فالأغنياء في نهاية المطاف لديهم أيضاً ما يستفيدون به ومنه بكل تأكيد، موضحاً أن الأمور تبدو صعبة في البداية، ولكنها ستمضي قدماً، مع التشديد على أن «الاقتصاد التشاركي» سيصبح يوماً نموذجاً اقتصادي عالمياً، غير مقتصر على الولايات المتحدة الأميركية وحدها وثلة من الدول الأوروبية الأخرى.إذاً، العالم يتغير سياسياً واجتماعيا وثقافيا وحتى اقتصادياً ويشهد كل يوم جديداً، ليس بالضرورة أن يكون هذا الجديد بعيداً عن عاداتنا وتقاليدنا، ولكنه بكل تأكيد بعيد عن المطاعم ومحلات الهواتف وملحقاتها، فهل ستنجح الولايات المتحدة بالفعل في تصدير هذا النموذج الاقتصادي إلى كافة المجتمعات العربية وغير العربية، كما نجحت في تصدير ثقافتها إلى العالم!