«الحرب أوّلها كلام» فكيف إن كان الامر... «حرق رايات»؟ فلبنان الذي «يغلي» على وقع ما يدور حوله في المنطقة، استفاق مع أحداث عرسال التي وقعت بين الجيش اللبناني وتنظيميْ «داعش» و«جبهة النصرة» في 2 اغسطس الماضي وما رافقها من خطْف عسكريين تم ذبْح أحدهم وما زال الآخرون في الأسر، على واقعٍ استحضر بعضاً من «ترسيمات» التناحر الطائفي الذي ساد ابان الحرب الأهلية والتي جاءت لتضاف الى الاحتقان المذهبي الذي يعتمل في البلاد منذ العام 2005.وكانت صورة حرق شبان لبنانيين من الطائفة المسيحية لـ «راية التوحيد» في منطقة الأشرفية باعتبارها راية «تنظيم الدولة الإسلامية» كافية لتشعل ردّ فعل «انتقامياً» في طرابلس حيث جرى حرق صلبان، وهو ما استُتبع بكتابة شعار «الدولة الإسلامية قادمة» على جدران كنائس في القبة والميناء (طرابلس)، في تطوّر كاد أن يتخذ أبعاداً خطيرة لولا الإسراع بتحرك القضاء ورجال الدين الذين بذلوا جهوداً لاحتواء الامر، واضعين الأمر في خانة التصرف الفردي.ومن خلف «دخان» الحرق والحرق المضاد في الاشرفية وطرابلس، أطلّت أسئلة اعتقد اللبنانيون انها من «زمن ولّى» وبينها هل بات لبنان أمام انقسام طائفي يتداخل مع «قوس» الانقسام المذهبي المتفجّر من اليمن مروراً بالعراق وصولاً إلى سورية وغيرها؟ وهل يؤشر الفعل وردود الفعل إلى ان البلاد انتقلت لمرحلة أكثر خطورة توقظ ترسبات الحرب التي «مزّقت» لبنان بين 1975 و 1990؟حارق راية «داعش» خلال تظاهرة «جيش وشعب» التي أقيمت في الاشرفية في 6 اغسطس الماضي (ابان أحداث عرسال) توارى عن الأنظار بعد التهديدات المباشرة له ولعائلته بحسب ما تم تداوله، وهو كان يضع صورة عملية الحرق كغلاف على حسابه الشخصي على موقع فيسبوك ليبدأ تداولها بكثافة في 29 اغسطس الماضي، الأمر الذي دفع القضاء للتحرك في اليوم التالي.فوزير العدل اللواء أشرف ريفي الذي يعي جيداً مدى هشاشة الوضع في لبنان، أسرع مطالباً مدعي عام التمييز القاضي سمير حمود بالتحرك لتوقيف حارقي الراية وإنزال أشد العقوبات بهم، نظراً لما يشكله هذا الفعل من تحقير للشعائر الدينية للأديان السماوية، ولما يمكن أن يؤدي إليه من إثارة الفتنة، مؤكداً أن شعار «التوحيد» بعيد كل البعد عن «داعش»، قبل ان يعود ويطالب القضاء بعد حرق الصلبان وكتابة شعارات على الكنائس في طرابلس بملاحقة كل مَن يتعرض بسوء الى الرموز المسيحية.قرار ريفي بملاحقة حارق راية «داعش» أشعل حرباً على مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيدين له ومعارضين، كما أحدثت الحادثة انقساماً حتى بين معارضي «الدولة الإسلامية»، حيث اعتبر بعضهم ان الدفاع عن عملية حرق راية الاسلام يفتح المجال للتعرض للدين الإسلامي، فيما تم التعاطي سياسياً مع هذا التطور بين حديْ انه «مؤامرة» او «عمل صبياني» وسط حساسية أثارها توكل النائب ابراهيم كنعان (من كتلة العماد ميشال عون وهو من أبرز القادة المسيحيين) عن الفاعلين وهجوم بعض نواب عون على اللواء ريفي قبل ان يتم تبريد الأمر بالتواصل مع وزير العدل.القيادي في «?تيار المستقبل» (يقوده الرئيس سعد الحريري) النائب السابق مصطفى علوش، اعتبر في حديث لـ»الراي» أنه «بغض النظر اذا كان ما أقدم عليه الشبان في الأشرفية تعبيراً عن غباء أم عن مؤامرة فإنه في الحالتين الأمر خطير، ويجب أن تتم معالجته بناء للاشارات القضائية ومحاكمة المسؤولين عن هذا الفعل»، مشيراً إلى الحالة العامة التي تمرّ بها المنطقة «فهناك غوغاء كبرى للسيطرة على المنطقة وهناك احساس بالظلم لدى فئات من اللبنانيين واحساس بالقوة لدى فئات أخرى، ولذلك المسألة ليست بهذه البساطة ما يستوجب اللجوء إلى القضاء بدلاً من التغاضي عن الموضوع أو اللجوء إلى ردات الفعل التي لا تحمد عقباها».وعن رد فعل الشباب في طرابلس، قال: «مَن أقدم على حرق الصلبان شباب من دون عنوان لا يمثلون طرابلس». وتعليقاً على توكل النائب كنعان عن حارقي راية الاسلام اجاب: «يعطيه العافية هذا حقه، وفي النهاية القضاء سيقول كلمته».وكان دفاع ريفي عن راية التوحيد دفع بكنعان الى إصدار بيان اعتبر فيه موقف وزير العدل «مثيراً للريبة والشك»، مشيراً إلى أن «وزير العدل لا يستطيع ألا يرى الاطار الشامل لفعل حرق علم «داعش»، لأنها منظمة ارهابية، وهم حرقوا هذا العلم رفضاً لكل الاعمال البربرية والاجرامية التي يقومون بها، ومطالباً ريفي بالعودة عن قراره، ولافتاً الى أنه «لا يجوز أبداً ان نرى دولتنا تذهب لتقتص من طلاب يعبرون عن قضية وطنية ووجهة نظر الكثير تاركة المجرمين يسرحون».واذ اعتبر كنعان «ان ما حصل في الأشرفية هو ضد الإرهاب وليس ضد الدين»، اكتفى عبر «الراي» بالاشارة الى أنه «تم حرق علم» (داعش) وليس راية الاسلام وسنقوم بما يلزم لتوضيح الأمر.كما دفعت الحادثة بنائب الاشرفية نديم الجميّل إلى ايضاح الأمر حيث علّق عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي قائلاً «يتمّ تداول صورة على مواقع التواصل الاجتماعي مصوّرة في ساحة ساسين، يهمّنا الايضاح أن هذه التصرفات ليست من شيم وصفات وأخلاق أهالي الأشرفية»، قبل ان يؤكد انه «ليس بتصرفات ولدانية تحمى المناطق المسيحية بل بالقتال إلى جانب الجيش ومساندته على كافة الأصعدة».ولم تقتصر تفاعلات حرق راية التوحيد على الداخل اللبناني والتحركات التي شهدتها بعض مخيماته لا سيما عين الحلوة والمية ومية، بل سرعان ما دخلت على خط ملف العسكريين الاسرى اذ اعلنت «جبهة النصرة» أنها فرْملت بعد نشر الصور إطلاق اثنين من العسكريين المسيحيين المخطوفين لديها، داعية الى ان يتبرأ أهلهم من «حزب الله» ويعتذروا عن حرق راية التوحيد، قبل ان تطالب باعتذار من البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي.ولم تتأخر الكنيسة المارونية في الدخول على خط الملف اذ اعلن مجلس المطارنة الموارنة بعد اجتماعه الشهري برئاسة الراعي ما يشبه الاعتذار الضمني عن حرق الراية في الاشرفية، مؤكداً انه «في سياق الوحدة الداخلية وميزة العيش المشترك اننا نشجب الأعمال اللامسؤولة التي يرتكبها البعض بخفة، ابتغاء لفتنة طائفية عبر المس بالرموز الدينية، ونطالب بضبها».