بعيدا عن الصخب النيابي حول البديل الاستراتيجي، أو التعديل الوزاري، وغيرهما من القضايا التي تشغل نواب الأمة وينشغل الشارع معهم فيها، تعيش المناطق الخارجية للكويت على وقع معاناة تحمل في طياتها خطرا، دون أن يعيرها أحد انتباها.هناك، على أطراف الصحراء المترامية، حيث توجد معسكرات وزارة الدفاع والحرس الوطني، وفي الأفق البعيد منشآت وزارة الداخلية لحرس الحدود والمنافذ، وبين هذه وتلك المنشآت النفطية، كلها تغرق بين الفنية وأختها في ظلام تفرضه عليها مافيا من نوع آخر، ضيقت عليها الاجهزة الأمنية داخليا، فانتقل نشاطها إلى المناطق الخارجية البعيدة عن العين والاهتمام.إنها قضية سرقة الأسلاك الكهربائية الهوائية الممتدة على أعمدة موازية للطرق الخارجية.طريق الصبية.. السالمي.. الوفرة.. كبد.. أم قدير.. المنطقة الحدودية الجنوبية «خبرة علي».. الدائري السابع.. وغيرها من الأماكن الأخرى الحيوية التي تتغذى على كهرباء الخطوط الهوائية، ذاقت قسوة الظلام الذي حل عليها لبعض الوقت، بعد ان سلب لصوص الكهرباء الخطوط المغذية لهذه الأماكن والتي تقدر بملايين الدنانير.تكسيرتكسير أعمدة كهرباء الخطوط الهوائية الخشبية وسرقة محتوياتها وحرق جزء منها أصبح منظرا معتادا على الطرق الخارجية وشواهد وبصمات تركها لصوص الكهرباء ليعلنوا عن عودتهم مجددا في تحد صارخ للجهات الأمنية التي وضعتهم في الفترة الأخيرة في بؤرة اهتمامهم.ويرى كثير ممن يستعملون الطرق السريعة البعيدة نسبيا عن العمران منظر الأعمدة المهشمة والخطوط المسروقة، لدرجة باتت هذه السرقات تهدد سلامة الجهات المستفيدة من تلك الخطوط كشركات النفط ومعسكرات الدفاع ومنشآت وزارة الداخلية.ودون خوف أو وجل عاود اللصوص مسلسل سرقاتهم، متخذين من مقولة «من أمن العقوبة أساء الأدب» شعارا لهم، في ظل تراخي الجهات المعنية بملاحقة ومعاقبة من يقوم بمثل هذه السرقات التي ترقى وفق نظر مدير إدارة طوارئ شبكات التوزيع إلى مرتبة جرائم أمن دولة.لصوص الكهرباء أو «مافيا» الكهرباء، كما يحلو للبعض تسميتهم، لجأوا في الفترة الأخيرة إلى تغيير نشاطهم من سرقة محطة التحويل إلى سرقة خطوط الكهرباء الهوائية بعد تضييق الخناق عليهم بتوقيع الوزارة أخيرا عقود حراسة أمنية لمحطاتها.خسائر مادية«الراي» زارت عددا من الأماكن التي وقعت فريسة في أيدي هؤلاء اللصوص وفتحت ملف السرقات مجددا، ورصدت بعدستها جزءا من هذه السرقات بعد ان وصلت تكلفة حجم سرقات الخطوط الهوائية ملايين الدنانير فضلا عن الخسائر المادية الأخرى التي تتكبدها الجهات المستفيدة من التيار الكهربائي التي تتغذى من تلك الخطوط لدرجة بلغ فيها السيل الزبى.ووفق التقديرات الرسمية، فإن حجم الخسائر التي تكبدتها الوزارة لإعادة إصلاح الخطوط الهوائية التي تم سرقتها عام 2011 بلغ 400 ألف دينار، في حين ارتفع هذا الرقم ليصل في 2012 إلى 560 ألف دينار وفي 2014 إلى 720 ألفا، أي بمعدل سنوي بلغ 560 ألفا.وربما يصعب على البعض ان يتخيل حجم الجرأة التي يمتلكونها هؤلاء اللصوص التي تقودهم لسرقة كيبلات خطوط الكهرباء الهوائية التي تمر بمحاذاة ميدان الرماية الموجود على خط الصبية والتي لا يفصلها عن الميدان سوى بضعة أمتار.خطر وطنييقول مدير إدارة طوارئ شبكات التوزيع الكهربائية المهندس ضحوي الهاملي ان حجم السرقات التي ينفذها لصوص الكهرباء وصلت لدرجة لا يمكن التغافل عنها، خصوصا وان تلك السرقات باتت تهدد سلامة عدد من الجهات الحيوية التي تستفيد من تغذية هذه الخطوط ومنها على سبيل المثال منشآت تابعة لوزارة الدفاع ووزارة الداخلية ومنشآت نفطية فضلا عن المزارع والشاليهات التي يمتلكها عدد من المواطنين.ويضيف الهاملي ان اللصوص أصبحت لديهم جرأة لمهاجمة الموقع الواحد مرة وأثنين وثلاثة، وذلك ربما يعود لعدم ملاحقتهم من قبل الجهات القانونية، ومثال على ذلك عملية سرقة خط الصبية، فاللصوص قاموا في أول يوم بسرقة سبعة أعمدة، وفي اليوم الثاني عادوا وسرقوا عددا أكبر، وهكذا حتى وصل عدد الأعمدة المسروقة في هذا الخط 70 عمودا ما أدى إلى قطع التيار عن جزء من معسكرات الحرس الوطني وعن شاليهات ومزارع المواطنين وجزء من إنارة الشوارع».ويقول الهاملي «من الطبيعي عندما يتم حدوث سرقة أن تقوم الوزارة بتحرير محضر إثبات حالة في أقرب مخفر، ولكن وبكل أسف هذا الأمر لا يتعدى كونه إثبات حالة، حالنا حال عشرات الحالات التي تم فيها عمل إثبات حالة دون أي نتيجة، إلى أن وصلنا لدرجة باتت الوزارة تعاني فيها من عجز في عدد الأعمدة ولم نعد قادرين على توفير الكميات لأن استيراد هذه الأعمدة الخشبية يستغرق وقتا طويلا وهذا سينعكس مباشرة على مشاريع الدولة الحيوية التي تحتاج إلى تيار موقت.ويؤكد ان «الوزارة أصبحت تتكبد ملايين الدنانير لإعادة تركيب خطوط هوائية جديدة ومثال على ذلك، فان إعادة تركيب وإصلاح خط الصبية سيكلف الوزارة ما بين 250 إلى 300 ألف دينار، هذا تكلفة خط واحد فما بالنا في تكلفة بقية الخطوط المسروقة التي تتجاوز أطوالها آلاف الكيلومترات؟ ناهيك عن الخسائر الأخرى التي تتكبدها الجهات التي تغذيها هذه الخطوط، فمعسكرات الجيش قامت بعد انقطاع التيار عنها بتشغيل مولدات الديزل وهي كما معروف للجميع تحرق كميات كبيرة من الوقود».ويضيف «نحن في وزارة الكهرباء لا نمتلك صفة تأديبية، لدرجة ان هؤلاء اللصوص اعتدوا على عمالة الوزارة «الفنيين البسطاء» وقاموا بسرقة سيارتهم، وكما ذكرت سلفا نحن لا نملك سوى جزئية إثبات حالة، فالوزارة ليس جهة شرطية أو قضائية تستطيع ان نعاقب هؤلاء اللصوص».ويضيف «نحن في حاجة ماسة لمساعدة الجهات الأخرى المستفيدة مثل وزارتي الدفاع والداخلية، لذا يفترض عليهما ان توفرا جزءا من الحماية لتلك الخطوط التي تمر في الأجزاء التي تشرفان عليها، ففي النهاية هذا الأمر يعتبر مالا عاما للكويت وعلى كل الجهات ان تتعاون لحماية ذلك المال».تجفيف المخزونيستطرد الهاملي في حديثه لـ «الراي» بأن «هذه السرقات بدأت تعمل على تجفف مخزوننا من الأعمدة الكهربائية الخشبية، فنحن نستهلك وفق مشاريعنا 600 عمود سنويا، ولكن مع هذه السرقات أصبحنا نستهلك آلاف الأعمدة، ناهيك عن الخدمات الأخرى التي تتكلفها الوزارة من أمور لوجيستية وعمالة إضافية، فالخطط التي كنا نريد تنفيذها أصبحنا الآن عاجزين عن تنفيذها بسبب تركيزنا على معالجة هذه السرقات».ويشير إلى ان الخطوط الهوائية تحتل أطوالا شاسعة ومهما حاولنا وضع دوريات يصعب علينا أحيانا الدخول إلى أماكن خاصة تتبع منشآت عسكرية أو نفطية، لأن جزءا من هذه الخطوط الهوائية تمر على أجزاء تشرف عليها هذه الجهات، ولذا يحتاج الأمر الى تصاريح لدخولها.ويرى ان عمليات السرقة تعتبر هدما لمنشآت الدولة الحيوية، نظرا لخطورة ضررها الكبير الذي يؤثر على الجهات المستفيدة من التيار الكهربائي، لذا يفترض ان يسن قانون من قبل مجلس الأمة أو الجهات المعنية يتم فيه تغليظ العقوبة على مثل هذه النوعية من السرقات لأن هذه النوعية، لا يمكن تشبيهها بسرقة تجوري فيه ألف دينار، فهذه السرقات تؤثر على الأمن العام وراحة المواطنين.ويتابع الهاملي «هذه السرقات ترقى إلى تصنيفها جرائم أمن دولة، فقطع التيار عمدا عن معسكرات الجيش ومنشآت الداخلية ومحطات ضخ المياه الجوفية والمنشآت النفطية يصنف جرائم أمن دولة، فطبيعة هذه الأعمدة تغذي المناطق البعيدة التي لا يصلها تيار».ويوضح أن «هؤلاء اللصوص يقومون بسرقة معدات تقدر بالملايين، ناهيك عن الجهد الكبير الذي يحتاجه إنشاء مثل هذه المشاريع، فنحن في الوزارة نستغرق أكثر من سنة لعملية التخطيط لإنشاء خط من هذه الخطوط في الوقت الذي تقوم فيه مجموعات اللصوص بسرقة وتخريب هذه المشاريع في يوم واحد».اقتراحات الوزارةيقول الهاملي إنه «عندما وجدت الوزارة ان القضية لن تنتهي بمعالجتها من الجانب الأمني فقط، قامت بناء على توجيهات وزير الكهرباء والماء وزير الأشغال العامة بتوقيع عقود أمنية للمحافظة على منشآتنا، ولكننا فضلنا تركيزها على محطات التحويل الرئيسية وبعض محطات ضخ المياه الجوفية. أما بالنسبة للخطوط الهوائية فاقترحت الوزارة تسيير دوريات ارتجالية من قبلنا، للمحافظة على هذه الخطوط وإعادة سرعة إصلاح الخطوط المسروقة وإحيائها بالتيار الكهربائي حتى لا تسرق بقية الخطوط».ويشير إلى ان هناك توجها لدى الوزارة لاستبدال الخطوط الهوائية بأخرى حديدية حتى تصعب سرقتها وبالفعل تم طرح أول عقد بعد عمل دراسة بطول 100 كيلومتر، ليعتبر النواة الأولى لإعادة تصميم شبكة الخطوط الهوائية، حيث راعينا ان يتم في هذه المناقصة استخدام موصلات مصنوعة من مادة الألمنيوم بقلب حديدي، لأن القلب الحديدي يعطي قدرة توصيل اقوى ويصعب على هؤلاء اللصوص عملية فرز الحديد من الألمنيوم».ويضيف «هذه تقنية مطبقة في كثير من دول العالم ولكن في الكويت بدأنا في تطبيقها للمرة الاولى، ولكن تعميمها يحتاج لسنوات حتى تتمكن الوزارة من استبدال شبكتها بشكل كامل، نحن بدأنا بشكل جزئي لحين يتم الانتهاء من كامل الشبكة».تضافر الجهودتمنى وكيل وزارة الكهرباء والماء المهندس أحمد الجسار ان تتضافر جهود أجهزة الدولة المعنية بموضوع سرقات خطوط ومحطات شبكة الكهرباء للقضاء على هذه العصابات التي باتت بأفعالها تهدد سلامة المنشآت التابعة للوزارة.وطلب الجسار من الجهات المختصة أنه في حال الإمساك ببعض أعضاء هذه العصابات أن يتم توقيع عقوبات مغلظة عليهم ليكونوا عبرة لمن لا يعتبر، مشيرا إلى ان الوزارة نجحت إلى حد كبير، خصوصا بعد توقيع مناقصة حراسة أمنية لمحطات التحويل وبعض المواقع الأخرى في تخفيض عدد السرقات التي كانت تستهدف محطات التحويل، إلا ان المشكلة التي تواجهنا الآن تتمثل في لجوء هذه العصابات إلى سرقة الخطوط الهوائية التي تغذي أماكن ومنشآت حيوية في الدولة.وأشار إلى ان هذه العصابات كادت ان تسبب أزمة للوزارة بعد ان استهدفت عددا من المغذيات الكهربائية تغذي آبار المياه الجوفية، حيث عطلت هذه السرقات العام الفائت حقل «الشقاي» لإنتاج المياه الجوفية بشكل كبير، ولولا الحلول السريعة التي وضعتها الوزارة عن طريق تشغيل مولدات الديزل وتشغيل هذه الآبار خلال فترة الصيف وتعويض النقص من أماكن أخرى لكانت الوزارة وقعت في مشكلة.
محليات
لصوص الكهرباء... يغزون الصحراء
10:48 ص