إن المجتمع الإسلامي مجتمع متميز، أساسه العقيدة الصحيحة وأركانه: عبادة صادقة، ومعاملة حسنة، وخلق قويم، وحرص على عمل الخير, والسلف كانوا إن تمكنوا من فعل الخير فعلوه، وإن فاتتهم تأسفوا على فواته، لأن فرص الخير تمرّ سانحة، فعلى المسلم اغتنامها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه، فإنه لا يدري متى يُغلق».و المتدبر لكتاب الله يلاحظ «أن الله ذكر القبيح ليجتنب، وذكر الأدون الأقل لئلا ترغب فيه وذكر الأحسن لتؤثره وتفضله» كما قال الحسن رحمه الله.قال تعالى في سورة الزمر: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (الزمر:54-55)، وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم} يعني القرآن، فهو كله حسن (فأحسن) اسم تفضيل مستعمل في معنى كامل الحسن، وليس من باب التفضيل، لأن جميع ما في القرآن حسن.فالله عزّ وجل يريد أن يؤدبنا بأعلى الآداب، وأفضلها حتى نكون متمزين في سلوكنا وأخلاقنا ليكون ذلك عامل جذب لهذا الدين؛ ولهذا أمرنا ربنا بكل جميل، وبالأكمل من كل خير، وإن كان الكمال طيبة فالأكمل أطيب منه.فالجزع في المصيبة مستقبح، والصبر طيب تؤجر عليه، ولكن الصبر الجميل أفضل منه. والهجر لمن لا يلتزم حدود الله مجاهراً طيب، ولكن الهجر الجميل الذي لا عتاب معه أفضل منه. والصفح عن زلات المسلم خير، ولكن الصفح الجميل أكثر ثواباً منه.أصل المعنىنتكلم اليوم بتوفيق الله عن (الصفح الجميل)؛ لأنه من الطاعات التي أمرنا ربنا بها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (الحجر:85)، فما هو الصفح الجميل:أصل معنى «الصفح» الجنب، ومنه صفحتا السيف؛ أي جانباه ومنه «الصفوح»: وهو المائل المبتعد، المعرض عن عقوبة من آذاه. لذلك وصفت عائشة الصديق أباها بقولها: «كان صفوحاً عن الجاهلين» أي عفّواً، ومنه امرأة صفوح: أي تعرض عن الوحل وتبتعد.وأصل الصفح الإعراض بصفحة وجهه عن ذنبه. ولذلك كان وصفاً لله تعالى، فهو عزّ وجل «الصفوح» أي العفو عن ذنب العباد، المعرض عن مجازاتهم تكرماً منه، ولذلك لما سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تقول إذا رأت ليلة القدر؟ قال صلى الله عليه وسلم: قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».فالعفو: هو مسح أثر الذنب الذي فعله غيرك معك، ولكن قد يكون أثره باقياً في النفس.والصفح: هو العفو مع القدرة على الانتقام، مع إخراج أثر الذنب والخطيئة من بالك.ولكن الذي يرضاه ربنا ويحبه هو الصفح الجميل: وهو الذي يترقى فيه المؤمن إلى الإحسان إلى من أساء إليه.فهذه مراحل تبينها الآية: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134). قد يقال لماذا هذا التقسيم؟ والجواب: إن هذه مراحل في التربية، ذلك أن الإسلام يريد من أهله أن يعاملوا من أساء إليهم بالعفو لعل الوعي الإيماني يستيقظ فيهم ويقولوا: والله لقد أحسنوا إلينا وأسأنا إليهم، أو يخجلون فلا يقفون في وجه الدعوة.فالله عزّ وجل أمر رسوله أن يستعبد النفوس بالإحسان، وهو أمر فوق العفو، وفوق الصفح، إنه الصفح الجميل الذي تحسن فيه إلى من أساء إليك. ولكن هناك نفوس لا يستعبدها إحسان، بل وتتمرد على الخير والحق فما الموقف؟ والجواب: إنه لا بد عندها من أن يشمر المؤمن عن ساعد الجد ويفعل ما يأمره الله له، فلا بد من الحزم عندئذ، وهكذا خاطب الله عزّ وجل نبيه بقوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُـــــــفَّارًا حَسَدـــــــــًا مِّنْ عِــــــندِ أَنفُسِهــــــِم مِّن بَعْدِ مَــــــا تَبــــَيَّنَ لَــــــــهـــــُمُ الْحَــــــقُّ فَــــــاعْـــــــفُوا وَاصــــْفَحُوا حَــــتَّى يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ} (البقرة:109) وهذا التعبير: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ} تهديد ووعيد، أي سنأمرك يا محمد بتأديبهم في مرحلة آتية لاحقة.قال العلماء: «وهذه عملية فطرية إنسانية وقد عرفها العرب قبل الإسلام وجاء الإسلام فأكدها». فقد كان العربي يحسن إلى عدوه مرة ومرة ومرة، وعندما يرى أن الإحسان لم يثمر، قام إلى القوة.فضل الصفح وثوابهيكفينا في بيان ثوابه وفضله حديث عقبة بن عامر، قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فابتدرني، فأخذ بيدي فقال: «يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق الدنياو الآخرة، تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك». ذلك لأن العفو يجعلك تعيش في الدنيا عزيزاً، سليم الصدر، بعيداً عن الحقد وعن معاداة الرجال، لأن معاداة الرجال تجعلك تعيش في قلق وأرق.بل الصفح سبيل إلى زيادة عزّ الرجل؛ ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال للصدّيق: «يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق، ما من عبد ظلم بمظلمة فيفضي عنها لله تعالى إلا أعزه الله، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بأكثر، وما من رجل يفتح باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة»، وفي الحديث: «ما زاد الله عبداً يـــعـــــفـــو إلا عــــزّاً»، وفيــــ الحــــــديث: «التواضع لا يزيد العبد إلا رفقاً، والعفو لا يزيد العبد إلا عزّاً، فاعفوا يعزكم الله».و العفو والصفح يجعلك تحشر مع أهل الفضل، فقد روى أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين قال: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: «أيكم أهل الفضل؟»، فيقوم ناس من الناس، فيقال: «انطلقوا إلى الجنة «، فتتلقاهم الملائكة: «إلى أين؟»، فيقولون: «إلى الجنة»، قالوا: «قبل الحساب؟»، قالوا: «نعم»، قالوا: «من أنتم؟»، قالوا: «نحن أهل الفضل»، قالوا: «وما كان فضلكم؟»، قالوا: «إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا سيء إلينا عفونا»، فيقال لهم: «ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين». ومن حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقف العباد يوم القيامة، نادى منادٍ ليقم من كان أجره على الله فليدخل الجنة، فلا يقوم إلا من عفا».
متفرقات - إسلاميات
العفو مع القدرة على الانتقام وإخراج أثر الذنب من النفس / 2-3
الصفح الجميل...
04:45 ص