ما إن قرأتُ خبر رحيل نجم الكوميديا العربي سعيد صالح حتى دهمني على الفور رسمٌ لفنان كاريكاتير لم أعد أتذكر اسمه، يصوّر فيه فناناً كوميدياً يمشي في الكواليس منكسراً حزيناً يجر قدميه جرّاً، حتى إذا ما وصل إلى خشبة العرض أمام الجمهور وتحت الأضواء طفق يتقافز ويتلوّى ويغيّر ملامح وجهه على نحوٍ ساخر في حركات تجعل الجمهور يضحك ضحكاً طليقاً مجلجلاً. ولكن ما إن تنتهي فقرة العرض ويعود إلى الكواليس والعتمة حتى نراه وقد آب إلى حزنه وانكساره، يخطو خطواً بطيئاً وهو يجر قدميه جرّاً.هل كانت حياة سعيد صالح على غرار شخصية الرسم السابق؟ هل حقاً كان خارج المسرح ـ حزيناً ومنكسراً وخائباً، ثم قبل أن يعتلي الخشبة داخل الصالة يخلع عنه شخصيته الحقيقية ويركنها جانباً ليُضحك جمهوره ضحكاً طليقاً معافى؟أسئلة كهذه لا يطرحها الخيال، بل تفيد بها سيرة حياته التي تخللتها أزمات ومشكلات اجتماعية وفنية وسياسية، لعل منها الحكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر جراء ارتجاله (وقد عُرف عنه الارتجال في أعمال عدّة) في إحدى مسرحياته عام 1983 بما يغمز من قناة الرؤساء الثلاثة: عبد الناصر والسادات ومبارك.وكذلك واجه الحكم بالسجن جراء تعاطيه مادة الحشيش (وهي شائعة في الأوساط الفنية في مصر) فقضى عاماً في السجن سنة 1996 بعد عدة أحكام أوقف فيها التنفيذ.ولعل ما قالته غادة إبراهيم إثر رحيله يلخص الأسى الذي كان يعاني منه سعيد صالح جراء النكران وقلة الوفاء. تقول غادة: «كان عيد ميلاده أول أمس (31 يوليو) ولم يتذكر كل من تجمّع حوله ليقولوا له كل سنة وأنت طيب! ورحل سعيد صالح في صمت مودّعاً كل محبيه وجمهوره الذين طالما أسعدهم وأدخل البهجة إلى قلوبهم لسنوات طويلة».وفي الواقع، فإن الفنان سعيد صالح قد صار جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة الجمهور العربي حين الحديث عن فن الكوميديا على المسرح، بل إن الأعمال الشهيرة التي شارك بها «العيال كبرت» و«مدرسة المشاغبين» وغيرهما يكاد المرء لا يمل من تكرار مشاهدة عروضها والضحك الطليق الجميل جراء الشخصية الفنية الباهرة التي مثّلها سعيد صالح في تلك الأعمال.في بُحّة صوته، في ملامح وجهه، في طوله الفارع، في حركاته، في قوة البداهة والموهبة والرغبة في الإضحاك، وفي القدرة لديه على تحقيق ذلك حتى عبر ارتجال لحظي من على الخشبة، هذا كله وغيره الكثير لا يمكن أن يُنسى في سعيد صالح، ولا يمكن لمرور الزمن أن يمحوه، ولا لثقل دم راهننا العربي أن يطغى عليه. ببساطة لأن سعيد صالح كان فناناً حقيقياً موهوباً من دون أدنى شك.ما يوجع القلب ـ رغم الحديث عن فنان كوميديا ـ بل ويدميه، حقيقةٌ تقول لو أن سعيد صالح كان فناناً مسرحياً كوميدياً في أي بلد أوروبي، لكان اشتُهر بما لا يُقاس، وكُرّم بما لا يُقاس، ونال من حقوقه أكثر بكثير مما يتصور هو نفسه. فهل قدر المبدعين العرب ـ على أي صعيد كان ـ أن يبذلوا ويعطوا ويبهجوا العقول والقلوب، ثم يرحلوا عن بؤس في حيواتهم وخذلان من المؤسسات والهيئات وأحياناً من أصدقاء حولهم، إلا من رحمهم ربّهم وهم من القلّة التي تؤكد القاعدة؟!