... «لعنة»، قدَر، ضريبة البحث عن لقمة العيش في أصقاع الارض... هكذا تلقّف اللبنانيون كارثة مقتل 19 مغترباً على متن الطائرة الجزائرية التي تحطمت في مالي بعيد انطلاقها من اواغادوغو (بوركينا فاسو)، في ثالث أسوأ مأساة تضرب لبنان «المَهْجر» (سواء العائد الى وطنه الام او المسافر الى بلاد الاغتراب) في تاريخه بعد فاجعتيْ طائرة كوتونو في ديسمبر 2003 والتي ذهب ضحيتها نحو 80 لبنانياً والطائرة الاثيوبية التي «ابتلعها» البحر في أعقاب إقلاعها من مطار بيروت في يناير 2010 وكان على متنها نحو 90 شخصاً غالبيتهم من أبناء «بلاد الأرز».والمشترك بين حوادث 2003 و2010 و2014 انها وقعت في زمن أعياد تغمّست بدماء مغتربين يشكّلون «الشريان» المالي الذي يضخّ سنوياً في «الاقتصاد المقيم» نحو 8 مليارات دولار اميركي.هو العيد الذي يحلّ مع «ثوب الحداد» الذي ارتدته بلدات جنوبية عدة يتحدّر منها غالبية ضحايا «طائرة الموت» التي واكبها لبنان باستنفار سياسي وديبلوماسي وأرسل وفداً من وزارة الخارجية والمغتربين وجهاز الامن العام لمتابعة التحقيقات في هذا الحادث المفجع والإشراف على إعادة جثامين اللبنانيين الـ 19 الذين يضمون 3 عائلات.لبنانيون كان أقاربهم وذووهم ينتظرونهم لتمضية عيدٍ عائلي وأعدّوا لاستقبالهم على الاكتاف وفرْش درب عودتهم ولو المؤقتة بورود الفرح، ولاسيما ان العديد منهم لم يأتوا الى الوطن الأمّ منذ اربع سنوات وأكثر، فاذا بـ «كابوس الجزائرية» يجعل الأهل يعّدون لاحتضان فلذات الأكبد على الاكفّ في النعوش وتحضير «أكاليل الموت» التي استعاد معها كثيرون «اشواك» الاغتراب.الخرايب، وحاريص وصريفا، ثلاث بلدات جنوبية لم تخرج بعد من الصدمة. الاولى فقدت ابنها بلال أسد الله الدهيني (41 عاماً) وزوجته وأولاده الثلاثة ريان (11 سنة) وأوليفيا (7 سنوات) ومالك (4 سنوات).عائلة دهيني في لبنان لا تصدّق كيف انقلب جو الاحتفال الذي كانت اللمسات الاخيرة وُضعت عليه الى «مصيبة» طرقت بابها «من السماء». ولسان حالها كيف ان بلال كان غادر قبل 20 عاماً بحثاً عن وضع أفضل في العمل والاستقرار، وتنقل بين المانيا وبوركينا فاسو إلى أن تزوّج من سيدة المانية ليستقرا لاحقاً في بوركينا فاسو، ويعمل في التجارة في حين تعمل زوجته مع وكالات التنمية.وفي حاريص، عائلة ابن البلدة منجي حسن حسن لم تخرج بعد من تأثير الخبر - الصاعقة الذي حلّ عليها مع اعلان فقدان الاتصال بالطائرة الجزائرية وصولاً الى تأكيد مصرع جميع ركابها.لسان حال اقرباء حسن ان ابن الـ 35 عاماً كان يريد تمضية العيد مع اقربائه في لبنان الا ان الموت كانت له «كلمة أخرى»، فخطفه مع عائلته التي كانت معه على متن الطائرة، اي زوجته نجوى عباس زيات (28 سنة) واولادهما حسن وحسين ومحمد رضا ورقية.اما صريفا، «البلدة الثكلى» فبدت حزينة دامعة تصارع حال الذهول التي دهمتها منذ تلقيها نبأ سقوط الطائرة وعلى متنها عائلة فايز ضاهر (لم يكن معهم) اي زوجته رندة وأولاده الثلاثة شيماء ابنة الخمسة أعوام وشقيقاها علي وصلاح الذين كانوا في طريقهم من افريقيا الى لبنان لقضاء إجازة عيد الفطر في بلدتهم الجنوبية على أن يلحق بهم الزوج والوالد بعد أيام.الجميع في صريفا يبكون عائلة فايز الذي وجد نفسه فجأة «يتيم العائلة» التي فقدها بلمح البصر والتي سيعود الى لبنان هذه المرة ليدفنها في مأتم واحد لم يعتقد يوماً انه سيقيمه، هو الذي كان قرر للمرة الاولى منذ اربع سنوات ان يمضي عيد الفطر في لبنان كي يتسنى لزوجته وأولاده ان يشعروا بأجواء العيد بين اقربائهم.وليس بعيداً، فُجعت بلدة الزرارية بفقدان ابنها الشاب محمد فيصل أخضر (23 عاما)، الذي استعجل المجيء إلى لبنان قبيل العيد، لأنه كان قرر وضع حدّ للعزوبية وأحب أن يفرح قلب والده ويدخل في عالم الخطوبة تمهيداً للزواج.ومن بين الصدمة الممتزجة بالألم والدموع في منزل محمد، ينبعث صوت خاله عباس متيرك بوهن وهو يتحدث عبر الهاتف الى «الراي».حجم الفاجعة أكبر من أن تتحمله أفئدتهم المشتاقة الى رؤية الفقيد. فمحمد كان حمل ما تيسر من متاعه وتوجه قبل عامين إلى بوركينا فاسو لتأمين مستقبل واعد، فإذا بالقدر يصطاده في الإغتراب لتقع المأساة.متيرك يوضح أن العائلة المتألمة «ما كانت تعلم بحضوره إلى لبنان قبيل العيد»، لافتا إلى أن «محمد أراد لزيارته إلى لبنان أن تكون مفاجأة سارة يفرح بها أمه وأخوته، فاتفق مع والده على موافاته في المطار ليقله، فإذا بالوالد يتلقى خبر تحطم الطائرة في المطار».ومن الضحايا الآخرين، عمر البلان من غسطا كسروان، يملك مطاعم في بوركينا فاسو، ومتأهل من ماريانا عودة وليس لديه اولاد. وكانت زوجته سبقته الى لبنان قبل ايام، وكان من المفترض ان يلاقيها للمشاركة في عرس ابن عمه اليوم، لكن الموت عاجله.اما في ساحل علما، فالحزن كبير على فادي رستم الذي تعوّد التنقل بين لبنان وبوركينا فاسو في اطار عمله وشقيقه جورج الذي تلقى في منزله خبر تحطّم الطائرة بحرْقة قلب «لن يطفئها» استعادة جثمان أخيه «فالمأساة أكبر من ان تطوى».