بدا القمر ليلة الخميس - صباح الجمعة في سماء مدينة جبيل (الخط الساحلي الشمالي للبنان) أقرب من أي وقت مضى إلى الأرض، وغلب عند الحاضرين الشعور بأنه جزء من الديكور الخلفي للمسرح المقام في قلب قلعة المدينة التي تغسل رجليها بمياه الشاطئ، وتسمو أنها من أعرق المدن تاريخياً وحين تبارت عالمياً نالت بلديتها العام الفائت جائزة أفضل بلدية في العالم.كل هذا تجمع في ليلة واحدة لم تكن لتشبه مثيلاتها، إنها ليلة فرح خاص للفنان الكبير مارسيل خليفة يغني للمرة الأولى في منطقته منذ ثلاثين عاماً. فالرجل الذي طُرِد من المنطقة لأنه يساري مؤيد للقضية العربية، عاد إليها وفي قلبه غصّة أنه مُنع من المشاركة في جنازة والده، وهو وجّه رسالة بهذا المعنى إلى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، لنشهد ميدانياً مفارقة لافتة في الحفل، لقد كان نائب جعجع في القوات النائب في مجلس النواب يجلس في الصف الأول مبتسماً، وهو أمر لم تتح لـ «الراي» فرصة سؤال الفنان خليفة عنه خلال دردشة معه سبقت الحفل بـ 48 ساعة، حيث عبّر عن سعادته الغامرة بهذا الحدث:«أنا أحييت مئات، بل آلاف الحفلات على امتداد العالم ولم أكن متوتراً أبداً كما أنا اليوم، هذا يعنيني كإنسان له ماض وذكريات، وتبدو آلامه أكثر حضوراً من أفراحه».ولدى سؤاله عن الجديد الذي يحمله، ردّ: «وزعت من جديد معظم أعمالي أوركسترالياً، لأن وجود 80 عازفاً و60 كورالاً يستوجب إجراءات عدة، منها إعادة توزيع ما سأغنيه وما ستعزفه الأوركسترا الوطنية اللبنانية بقيادة المايسترو اللبناني هاروت فازليان (نجل الممثل والمخرج المخضرم بيرج فازليان) من مقطوعات. إضافة إلى مشاركة من أربعة أصوات، رفيقة المشوار الطويل لفرقة الميادين منذ كانت في الحادية عشرة من عمرها المطربة أميمة الخليل، مع عبير نعمة التي أعطت للأغنية (غنّ قليلاً) التي لحنتها بعداً إضافياً بصوتها الرائع، والموهبة المصرية محمد محسن الذي يعتبر واحداً ممن سرقت ثورتهم وعليهم استردادها».وعندما أبلغناه أن هذا الكلام سياسي بادرنا: «بات علينا التحدث بكل اللغات والموضوعات لشرح وجمع التأييد لأفكارنا في كل مناسبة وكل وقت، ولنتحدّث سياسة واجتماع وبيئة وحقوق إنسان، لا بأس».«شكراً على غنائكم الجميل»... العبارة قالها مارسيل وهو يعتمر ملابس بيضاء مع فولار لونه توركواز فاتح، وسط 140 من العازفين والكورال، عندما لاحظ أن الحضور يحفظ عن ظهر قلب معظم أغنياته، فشكر الحضور الوافدين من كل المناطق اللبنانية معتبراً أن هذه الصورة لطالما أرادها سمة من سمات لبنان الوطن الذي لا يهزم.بعد شريط وثائقي من توقيع تلفزيون الجديد سبق وعرض في حفل الأونيسكو يروي أهم محطات سيرته الشخصية والفنية، كانت معزوفات ومن ثم أغنيات ملأت فضاء جبيل بعبق التاريخ ومزايا الحاضر النموذجي.«يا نسيم الروح». الأغنية الأولى في السهرة العامرة، تبعتها السوبرانو الألمانية فيليسيتاس فوشس في وصلة من الغناء الأوبرالي أهدتها إلى أطفال غزة والعالم الذين تحمّلوا ما تحمّلوا من التبعات الكوارثية للحروب العبثية التي تعيشها منطقتنا ومناطق مختلفة من العالم. وعزف الكندي جوليان لابرو على الأكورديون مقطوعة تانغو لعيون حبيبتي، وغنّى مارسيل «منتصب القامة أمشي»، في حضور لطالما أسرنا لأسلوب عزفه على العود.مطربونالرفيقة الدائمة لمارسيل المطربة أميمة الخليل قدّمت محطات غنائية عدة بصوتها الشجي النقي، وجاء صوت المصري محمد محسن مؤثراً بعمق ذكّرنا بالراحل محمد فوزي، وصولاً إلى مفاجأة الحفل عبير نعمة التي وضح تماماً أنها مشروع مطربة كبيرة يفترض استغلال صوتها المدهش في أعمال مع الكبار من مستوى مارسيل، خصوصاً بعد الاستماع إلى أغنيتها «غنّ قليلاً»، التي حازت عنها تصفيقاً حاراً مع كل إجادة أو تطريب وتجويد. لقد اعتُبِرت زينة الحفل من دون منازع، فيما يوازيها في الإجادة رامي خليفة الذي يملك سحراً خاصاً في العزف على البيانو بأسلوب مدهش ومبتكر، وحضر الابن الثاني لمارسيل، ويدعى بشار على الإيقاعات فكان فرقة موسيقية مستقلة قائمة بذاتها.ليلة مذهلة في تنويعها وإبداعها قدّمها صاحب أجمل الأغاني والألبومات منذ غنّى العام 1976 «بالأخضر كفّناه» للشاعر عز الدين المناصرة جمعها مع 4 قصائد لمحمود درويش في أول ألبوم له، أتبعه بـ «أوبريت أحمد العربي»، «وعود من العاصفة»، «عالحدود»، «سلام عليك»، «ركوة عرب»، «مداعبة»، «جدل العود»، «كونشرتو الأندلس»، «تصبحون على وطن»، «حلم ليلة صيف»، «بساط الريح»، «الجسر»، «سعادة»، «تقسيم»، «أعراس»، «من أين أدخل الوطن»، «الله ينجّينا من الآت»، «أغاني المطر» و«سقوط القمر».
فنون - فوانيس رمضان
بعد 30 عاماً من الغياب عن منطقته التي طُرد منها لمواقفه
مارسيل خليفة... اليساري عاد إلى «بيبلوس» بغصّة المحروم
11:17 ص