|   نادين البدير   |

تقول فاطمة المرنيسي على لسان جدتها: «من الطبيعي أن تخاف المرأة حين تعبر البحار والمحيطات».أما أمي فتروي كيف شجعتها جدتي على السفر وحيدة في الستينات الماضية، كانت تعمل معلمة في مدينة الرياض بعيداً عن إقامة أهلها. انتقد أفراد من العائلة عدم خشية الأم على ابنتها وهي تستقل الطائرات وتعبر الصحارى الجرداء... فقالت لهم (السفر سيحميها ويجوهرها).هدأ توتري حين تذكرت هذين النموذجين وأنا في السماء متجهة إلى جزيرة صقلية في مثل هذا الشهر من العام الماضي... كنت شاردة أسأل نفسي: «لماذا أقوم بهذه الأمور» أربكني عنوان الدعوة: «ندوة ثقافة القانونية» بتنظيم من مركز خدمة المجتمع التابع لجامعة جورج تاون الأميركية. بدأنا الاقتراب من إيطاليا وبدأت أفكر جديا بعلاقتي بثقافة القانونية، رسمت تصورا للندوة، حضور كثيف لأبرز المحامين والقضاة ربما بمعاطفهم السوداء، نقاشات حول عقود وقوانين دولية ومعاهدات معروفة وأرقام مواد معقدة. سأقف متفرجة.كان علي أن أقرأ وأتفقه قبل أن أزج بي بمثل هذه الندوات. ومع ذلك ركبت الطائرة. فأنا امرأة عليها استخدام أجنحتها قبل أن تتعطل من كثرة التحليق في ذات الأطر الفكرية وذات الأماكن. لن تكون جدة المرنيسي في بدايات العشرينات أو جدتي في الستينات أكثر قوة مني، وأكثر رغبة بالمعرفة مني. وأكثر حبا للمغامرة وخوض الجديد ومقابلة الأجانب مني.سأتقدم عليهن، وسأكون ضمن الحركة التصاعدية ولن أشارك في الانتكاسات. وفي الأسفار سأحاول نسيان أني أحتاج لإذن خروج لدى عبوري الحدود. سأنساه موقتاً. أقله أني حصلت على الإذن بالتحليق.وفي النهاية نحن نسافر لنعرف، وأنا أردت أن أعرف ما هي ثقافة القانونية. ولماذا أنا؟كان الحضور محدودا، أسماء معينة، المنظمون وعدد من البروفيسورات، كتاب وإعلاميين من عدة دول خليجية، رجل دين، مخرجين عرب، منتجي سينما أميركيين، قاض، وأنا...بداية مطمئنة، المكان ليس قاعة محكمة.تقع صقلية في الجنوب الإيطالي، الانتقال منها إلى مدن الشمال يكشف عن فجوة حضارية وثقافية واضحة... العمارات المتآكلة، المرور الفوضوي، الأحياء التي دمرتها المافيا، الطريقة البدائية في المغازلة. ففي روما وميلانو تعتبر الرقة أساسا لإبداء الرجل إعجابه، أما بعض أبناء صقلية فبكل ما أوتوا من صراخ. لكني لن أقول أني تضايقت حين عاكسني الطليان، فرغم بدائية التعليقات كانت عابرة مضحكة.وكنت أعرفها بصقلية المافيا. كنت أعرفها على ضوء ما أكده لي أصدقائي في الشمال الإيطالي بأنها السبب وراء الانتكاسات الاقتصادية بإيطاليا، وسبب تدهور الأوضاع. فإذا ما بدأ الحديث عن الجنوب يمتعضون ويدخلون في ثرثرة لا تنتهي. لكن موطن المافيا عاملني بكرم، أغدقه علي.دخول البلدان مثل مقابلة الشريك المحتمل للمرة الأولى، فإما أن تنجذب إلى المدينة وتسحرك عما دونها، تسحرك حتى رائحتها فلكل مدينة رائحة، رائحة لشوارعها ومقاهيها وسكانها، وستبقى رائحتها عالقة بأنفاسك ولو صرت ببقعة غير البقعة لتبقيك منتشيا من فرط الحنين حتى تعود.وإما ألا تحرك بك المدينة شيئاً، فإذا ما سألك أحد عنها تقول: نعم جميلة زرتها.صقلية ليست المدينة التي أنتشي إذا ما زارني أريجها المتطاير، لكنها لن تكون أبداً عابرة في حياتي.هناك أزلت عن كاهلي حيرة تمردي، فسر لي موطن الخوف والحزن الغابر ما كنت أحسبه حزناً عميقاً، فإذا هو فرح لا ينتهي.جمعتني بصقلية ثقافة القانونية التي أجهلها، هناك حكمة من كل حركة وسبب وراء كل صدفة.لدى وصولي وزملائي باليرمو (مسرح الجريمة السابق) استقبلتنا السماء بدموع فرحة، للمرة الأولى أشعر أني أرحل عبر الأمطار، مزقت ما كان يحيطني من خوف وخرجت، أنا أكره الخوف، أمقته... نسيت جهلي بالقانون لساعات، أخذت أمتع ناظري بباليرمو محل إقامتنا.كان الفندق مطلاً على البحر، تفصله عن المياه شجيرات وأعمدة معبد صغير وتمثال منحوت لامرأة تمركز في وسط الحديقة متوجهاً نحو البحر، ولو أني ذلك التمثال لاستدرت شطر القصر العتيق فهنا تسكن أرواحي، ولعل النحات خشي على تمثاله من غدر البحر فوجهه صوبه ليأمن شره.كمعظم الفنادق الإيطالية التي تعود إلى منازل قديمة كان أصله قصراً لعائلة صقلية، اسمه (فيلا إيجيا) على اسم ابنة صاحب القصر سابقاً. وكان التمثال المنحوت لذات الابنة أو تخيلت ذلك. كثيرا ما تختلط خيالاتي بالحقيقة. على مأدبة عشاء التعارف في الليلة الأولى، جلس إلى جانبي أول شخص أجنبي أتعرف إليه هناك.ليولوكا أورلاندو...سياسي إيطالي وعمدة باليرمو السابق، من أشد وأشهر محاربي المافيا وأحد من ساهم فعلياً بالقضاء على دورها الدموي في صقلية وتحديدا باليرمو. أورلاندو محاط بالحرس أينما ذهب، حول الطاولة التي جمعتنا كان هناك عدد منهم، ومن الزجاج الملون للنوافذ الطويلة التي ملأت جدران قاعة الطعام ذات السقف العالي بنقوشه العتيقة الغالية، كان يمكنني مشاهدة بقية الحرس يقف في الحديقة الخارجية مترقباً...حكى لي أشد محاربي الإجرام شراسة عما حدث ويحدث بخفة ظله اللامتناهية. مازحني أورلاندو قائلاً: تجلسين إلى جانبي وقد تصيبك رصاصة موجهة نحوي في أي لحظة. ضحكت لأجامله لكن تنفسي توقف للحظات. «حلقت بأجنحتي وقطعت البحار لأتعلم كيف أصير ضحية انتقام مافيا».لكني سأروي لاحقا ماذا تعلمت من أبو ليلى. هذا هو اسم ابنته، عربي.نظرت إلى يساري فراقبت وجود الملتحي، أومأ لي برأسه مبتسما، ابتسمت... لن أتضايق فحولي كثير من الحليقين وسيعوضون عن وجوده.في صباح اليوم التالي، ابتدأت أولى الجلسات وعرفت ماذا أفعل هنا.أشارك في ندوة هدفها نشر ثقافة القانون في الدول العربية، ومهمتي المشاركة بنشر هذه الثقافة.استراتيجية الندوة تركز على الإعلام كوسيلة فعالة بتوعية الناس بأهمية القانون، وعلى السينما ودور رجال الدين في ذلك. لهذا السبب كان هناك رجل دين أردني بين عشرين رجلاً من حليقي اللحى وثلاث نساء كاشفات الرأس.أمضينا عشرة أيام. قابلنا إعلاميين، أعضاء في البرلمان، محاربات للتمييز.روزماري دي الميريتا... صديقتي.خمس وستون عاماً. ناشطة حقوقية وصاحبة مزرعة عنب لإنتاج الخمور... هي نفسها تبدو كأجود أنواع الخمور، كل شيء فيها يؤكد أن الخمر المعتق اسمه امرأة صلبة...يتبع...

كاتبة وإعلامية سعوديةAlbdairnadine@hotmail.com