من غرائب الاحتجاج الديموقراطي في عصرنا بدعة التعري النسائي علناً. منهن من يُعرّين صدورهن على قارعة الطريق، ومنهن من يتعرّيْن تعرياً كاملاً أمام الملأ. إنها ديموقراطية التعرّي. أو التعرّي الديموقراطي، أو الديموقراطية المتعرّية...! ولا شك في أن هذا التعري يلقى معجبين ومؤيدين ممن يرون في مفهوم الديموقراطية والحرية: افعل ما تريد، وما يخطر ببالك، وما لا يخطر ببال الآخرين. وأيضاً هناك معجبون بديموقراطية التعري ممن يعشقون جمالية التعري... من دون دافع ديموقراطي!هذا التعرّي الديموقراطي ظهر في تونس. ومارسته لبنانية. تصوروا مظاهرة نسائية تتعرّى فيها جواري العصر العباسي مثلاً أمام قصر الخليفة، أو ديوان الشرطة والزنادقة للمطالبة بحقوقهن في قصور الحريم؟! أو تصوروا، مثلاً، مظاهرة تعرٍّ ديموقراطي للخصيان في شوارع بغداد العباسية للاحتجاج على إخصائهن؟!من الحقائق النفسية أن المرأة عندما ترى الرجل عارياً فإنها تكسوه بثياب من خيالها. وأن الرجل عندما يرى المرأة كاسية فإنه يجردها بخياله من ثيابها. منهم من يجردها لاستجلاء جمالية مفاتن الجسد الأنثوي. ومنهم من يجردها لاستجداء شهوانية تلك المفاتن الجسدية.النحت الإغريقي نحت جمالية الجسد البشري، رجلاً وامرأة، افتناناً بروعة التناسق الجمالي لهذا الجسد، بعيداً عن الشّبقية الجنسية. حتى الآلهة جسّدوها عارية. وفي تراث الشرق، فراعنةً، ورافديين، وفينيقيين... كان التّعرّي، في أغلبه، محتشماً في الرسم والنحت، وإن جُسّد التعري رسماً ونحتاً، فقد كان ذا مفاهيم طقسية دينية لارتباط الأعضاء التناسلية بعقيدة الخصب والحياة والولادة.وفي جاهليتنا العربية كانت الأصنام والأوثان تعكس نزعة الحشمة. أما في الإسلام فقد حُرِّم النحت والتصوير كتجسيد مادي منظور. لكن (التصوير الشعري) بقي يمارِس فن التّعرّي الجسدي للمرأة حصراً. فمنه تعرٍّ متعهِّر شبقي، كما عند امرئ القيس في الجاهلية، ومنه تعرٍّ جمالي (إغريقي) وصفَ كليات وجزئيات الجمال الأنثوي الحسي بشكل فني باهر، كوصف الأنامل والحواجب والأهداب والعيون والشَّعر والنظرات والصوت... والجمال النفسي، كالغنج والدلال، والتمنُّع، والخفر والحياء، والوفاء.والغريب أن النساء الشاعرات العاشقات لم يصفن جماليات الرجال جسدياً كمثال فني للجمال، كما عند الإغريق، وبالطبع لم يصفن الجسد الذكوري شبقياً. واقتصرالوصف نفسياً على وصف الشجاعة والمروءة والشهامة والكرم... وهذا بدافع الفطرة الأنثوية التي تجعل المرأة تتعفَّف عن التغزّل بالرجل المعشوق، ولكن عمر بن أبي ربيعة، في قصصه الغزلية، تقمّص المرأة العاشقة وفضح بعض ما تخفيه من خفايا.ومن القصائد الرائعة في وصف المرأة المتعرّية، من دون تعهُّر شبقي، قصيدة لأبي نواس رغم فجوره الغزلي بالنساء والغلمان. وفي هذه القصيدة يسمو الفن الوصفي الجمالي فوق الوصف الحسي الشبقي. والقصيدة تصف امرأة تغتسل ولا بأس من إيرادها، لترطيب الموضوع:نضَتْ عنها الثيابَ لصبِّ ماءِفورّدَ وجهَها فرْطُ الحياءِوقابلتِ النّسيمَ وقد تعرّتْبمعتدلٍ أرقَّ من الهواءِومدّتْ راحةً كالماء منهاإلى ماءٍ مُعَدٍّ في إناءِفلما أنْ قضتْ وطَراً وهمّتْعلى عجلٍ إلى أخذ الرداءِرأت شخصَ الرقيب على التدانيفأسبلتِ الظلام على الضياءفغاب الصبحُ منها تحت ليلٍوظلَّ الماءُ يقطُر فوق ماءفسبحان الإله وقد براهاكأحسنِ ما تكون من النساءِهذا هو الوصف الإغريقي للجمال: افتنان بمقاييسه المتناسقة، وتحليل نفسي للحياء الأنثوي حتى من جسدها هي.تُرى كيف تشعر المرأة المتعرية ديموقراطياً في الشارع أمام الملأ؟ بل كيف يشعر الرجال؟ بل كيف تشعر المرأة غير المتعرّية وهي ترى جسدها يُنتهَك من جسد بنات جنسها؟* كاتب سوري