رغم تعثّر الربيع العربي في البلدان التي حلَّ فيها، رغم الإشكالات والتنازعات التي ظهرت بين القوى والأحزاب والتيارات والتنظيمات المتطرفة منها أو المعتدلة. رغم ما قد يبدو للوهلة الأولى، من خيبة أمل مفادها أن النهوض لم يهدف إلى استبدال خراب بخراب...رغم كلّ ذلك، وهو مرٌّ ومحزنٌ، فإن عودة إلى الماضي، وما كنّا عليه يوضح الصورةَ الراهنة ويزيل عنها نسبة من مرارتها وحزنها.أليس سكون الشعوب، وخنوعها، أو خضوعها وامتثالها للقائم الظالم الفاسد أحد مظاهر الموت؟ أم نكن، قبل الربيع العربي، نحار أمام شعوب أخرى أنجزت حريتها وحقّقت كرامة أبنائها، في كيف نشرح لهم أن القهر الواقع علينا حقيقي ـ وليس مجازاً ـ وواقعي وليس نزوعاً للرفض من أجل الرفض؟كثيراً ما قال أوروبيون وغربيون: إذا كانت أنظمتكم وسلطات بلدانكم قاهرة ومستبدة إلى الحدِّ الذي تعلنون، من الذي يجعلكم تستكينون وتمتثلون؟ ما الذي يحول دون نهوضكم للدفاع عن حرياتكم وكرامتكم المسلوبة؟كنا نشرح لهم- لتبرئة ساحة شعوبنا على الأقل- أننا نقدّر الحرية، ونتوق إليها، ونسعى إليها، وقد دفع العديد من أبناء شعوبنا أثماناً باهظة لتحقيق العدالة وتداول السلطة، وتسيّد القانون... غير أن الأنظمة أشدّ استبداداً وتعسّفاً مما تظنون.لم يكونوا يستطيعون فهم المعادلة الملتبسة: شدّة القمع واستمرار الانصياع وفق مفهومهم يؤدي بطرف المعادلة الأول إلى مقاومته غريزياً. وكانت الصورة تلتبس مزيداً مع شرحٍ مفصّل لها.كنا نبدو- في عيونهم، وفي عيون أنفسنا أيضاً- شعوباً اعتادت الذل والهوان، راكمت السنون الطوال القهر في دماء المحكومين وخلايا الناس المظلومين، حتى اعتدنا عليها وصارت جزءاً من نسيجنا الفكري، وحتى البيولوجي!الأدب الذي ظهر عقب هزيمة 67 يروي حكايات وحكايات. أدب السجون يضيء الانتهاك الصارخ لحقوق إنساننا. روايات ومسرحيات وقصص وقصائد تروي الكثير جداً مما بات قناعة لدينا من أننا شعوب صوتية، تصرخ وتحتّج، لكن في غرف الخوف وكهوف الذعر.النزول إلى الشارع، من مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية أو التيارات والمذاهب كان يبدو حلماً بعيد المنال، لا يمكن حدوثه إلا على الورق، أو عبر الهمس. النهوض العربي صار نكتة متداولة بيننا.كل هذا، وأكثر منه بكثير، ربض على قلوبنا وعقولنا وكتاباتنا وثقافاتنا حتى بتنا على قناعة تامّة أن لا قائمة يمكن أن تقوم للشعوب العربية.أبهى ما في الربيع العربي، أنه قدّم الجواب الحاسم الذي لا جدال بعده من أن بالإمكان أن ننهض. لسنا مصابين بالكساح. لسنا عاجزين ولسنا ضعفاء. والعبودية ليست زمرة دم لدمائنا، كما يبدو لنا نحن، قبل أن نراه في عيون الآخرين.وأعظم ما في الربيع العربي: كسر طوق الخوف الذي كان يلفّنا جميعاً. الصورة الآن مشوشة، ومختلطة، وباعثة على المرارة والحزن؟ لا بأس. أفضل ألف مرة من أن نخال أننا متخصصون بالذل، نورثه لأبنائنا من بعدنا.