على «كومة» البحص والتراب المرقطة بالدم، تركت يارا ذات الأعوام الستة حذاءها الزهري أمام منزل والديها في عرسال (البقاع الشمالي) ورحلتْ. هي لم «تتنازل» عنه بسهولة؛ فالصاروخ «الغاشم» الذي باغتها في يوم عطلتها المدرسية شظى الطفولة في عينيها... خارت قواها فسقط من قدميها، بعدما «لفظت» براءة ابتسامتها الأخيرة. أخوتها محمود، عدلا، سحر ومحمد، عانقوا روحها، فحلقوا سويا في السماء، تاركين أجساداً طرية أكبرها لم يتجاوز الثالثة عشرة وأصغرها رضيع في شهره الثامن عشر.أبناء زاهر الحجيري ليسوا أول غيث قافلة الشهداء في عرسال ولا آخره. آخرون سبقوهم ولحقوا بهم، لكنهم الذاكرة الأكثر ايلاماً للاعتداءات المتكررة على البلدة من الجانبين اللبناني والسوري.وبعد أقل من عشرين يوماً على «المجزرة» التي أودت بـ يارا وأشقائها اثر صاروخ شقّ طريقه الى فسحة الطفولة في عرسال، اصرارٌ من الأهالي على ان قصف البلدة ذات الغالبية السنية والتي تناصر بغالبيتها الثورة السورية جاء من الداخل اللبناني وليس من الجانب السوري، وغضبٌ يعتمل تحت دماءٍ جفت على التراب المفجوع. هنا تماثلت ذاكرة المكان لـ «المصاب»، وغابت «ضحكات اللهو المجنونة» في غفلة من الأيام الآمنة ونزفت «دموعاً ودماً».داخل المنزل العرسالي - التوأم لكل بيوت البلدة بتواضُعه و«خشونته» لتحمّل «رداءة» البيئة الجبلية وصلافتها، لا صوت يعلو فوق هدير الصمت. لا خطوات مهرْولة تضجّ بين الغرف. لا أيادي متدافعة لالتقاط القوت. حقائب المدرسة في احدى زوايا الغرفة ما زالت في «عطلتها الأسبوعية» مذاك اليوم المشؤوم، فلا ترداد للمحفوظات أو مذاكرة لدروس القواعد. هنا لا بكاء لطفلٍ حان موعد رضّاعته، ولا نهرة أبٍ بأولاده لتقصيرهم في الدرس. لا أنفاس. وحدها الدموع المنهمرة من عينيْ الوالدة «المحروقة القلب» تنسكب من حدقتيها صامتة لتغسل في مسارها وجنتين شاحبتين أعياهما اللطم والبكاء فتتأوه.. بصمت أيضاً.عدنانة الحجيري فَرُغ منزلها من المعزين، بقيت بضع جارات وقريبات ليقضين معها يومياتها الحزينة علهن يقطعن عليها لبرهة شريط الذكريات الموجعة منذ ولادة أطفالها حتى استشهادهم، دون أن يفلحن في تحقيق المبتغى. تجلس الوالدة المفجوعة بصمت. تشخص بنظرها عبر النافذة، كأنها تراقب أولادها في الأفق البعيد. تذرف دموعاً غزيرة وتكظم صرخة مدوية حين تذكّر نفسها بأنهم «في الجنة شهداء الى جوار ربهم».تستذكر عدنانة في حديث متقطع لـ«الراي» بلّلته بدمع وفير، يوم الجمعة في 17 يناير الفائت، فتشير الى أن «أولادها كانوا في المنزل يقضون عطلتهم الأسبوعية، وقد هرعوا عند سقوط قذائف في محيط المنزل لتفقّد الأضرار التي أحدثتها، وعند وصولهم الواحد تلو الآخر الى المدخل الصخري، باغتهم صاروخ آخر دلف الى المنطقة بمكر، فسقط على بُعد خطوات منهم موزعاً شظايا قاتلة بكل اتجاه، فأرداهم».السيدة الثلاثينية التي تتعثر الكلمات عندما تشقّ طريقها من فؤادها المحترق، تصمت بين الكلمة والأخرى. يطول الصمت. تكبح دمعة بمنديلها. وتقول بصوت خافت: «البيت كجهنم من دونهم، أنا وزوجي وابنتي الوحيدة التي نجت من المصيبة، نعيش بلا روح. بلا قلب. بلا عيون». وتضيف بمرارة: «سمر، ذات العشر سنوات والتي أصيبت في ذلك اليوم بجروح، كانت تعيش وسط أسرة سعيدة، تتواصل مع أخوتها وتتشاطر معهم يومياتهم بحُلوها ومُرها. باتت صغيرتي اليوم وحيدة دون أخت أو أخ».الأم التي تخشى على مستقبل ابنةٍ ستتابع حياتها وحيدة تصارع مكائد القدَر، ترفض أن تتحدث سمر، التي عاشت الواقعة وشاهدت أخوتها طريحي «التراب» مضرجين بدمائهم، لـ «الراي» أو الى أي وسيلة اعلامية أخرى، لافتة الى أن «الطفلة لا تزال تحت وقع الصدمة، ناهيك عن أن جراحها لم تندمل بعد».في غرفة الأطفال الستة، ألعاب مهملة راح الغبار يحيك ستاراً لها، فيخبئ تحت خيوطه الشفافة بصمات الأنامل الفتية. فلا يد ستمتدّ الى العربة الصغيرة. الدمية ستبقى في علبتها، ولن يُسرَّحَ شعرها الأشقر. الدب المحشو سينام وحيداً في فراش بارد لن يتسلل الدفء اليه مطلقاً. أما دفاتر الرسم وأقلام التلوين فهي ستمكث طويلاً على أحد الرفوف... وحتى سمر لن تهوى التلوين بعد اليوم من دون أشقائها.وسط حاجيات شهدائها وذكرياتهم، ترفع عدنانة صورة أبنائها الست، تشير بالبنان الى كل واحد فيها، هذا محمود وذاك محمد. وهؤلاء سحر وعدلا ويارا. تضمها الى قلبها كمن يحتضن حبيباً في وداع أخير. تطبع عليها قبلة ما قبل نوم عميق لن يستقيظوا منه. «كانوا كالملائكة، يأخذون على عاتقهم قسطاً من أعمال المنزل»، تقول الأم الثكلى، مشيرة الى «أنهم لطالما تعاهدوا على عدم اغضابي كي لا أشعر بالحزن». تصمت. ثم تختصر ألمها بعبارة يتيمة زفرتها بأسى من أعماق محروقة: «اشتقتُ اليهم».الوالد الذي يستعين بتلاوة القرآن الكريم والصلاة للتحلي بالصبر والسلوان لتحمل المصاب، يؤكد أن «ما من قوي وصلب يكابر على الألم في مسألة تتعلق بأولاده، فما بالك بهذه المجزرة».دمعة تتلألأ في عينيه تخضب كلامه المتخم بالألم، حين يسأل بيأس: «ما ذنب أولادي ليُقتلوا؟»، ويأسف لأن «أحداً من المعنيين لم يحرك ساكناً حتى الساعة ليأخذ حق أبنائي»، متداركاً: «أولادي قُتلوا ظلماً وباذن الله لن يضيع حقهم عنده».يستذكر زاهر الحجيري، بائع «الكنافة»، ذاك اليوم فيما كان يشير لـ «الراي» الى مكان سقوط الصاروخ والرقعة التي تهاوى عليها أبناؤه شهداء: «لم أكن في المنزل يومها، هاتفني أخي وقال لي ان أطفالي مصابون جراء القصف. سألتُه عن مزيد من التفاصيل، فأجاب بأنني سأطلع عليها كلها عند عودتي». ويضيف بغصة تبتلع صوته: «عرفتُ حينها أن مكروهاً أصابهم وأن المسألة تفوق الاصابة، لم تجفّ دمعتي منذ تلك اللحظة، قبل أن أودّعهم وحتى وأنا أودعهم في مثواهم الأخير».الوالد الذي ترتسم ملامح أطفاله أمامه كلما وطأ عتبة المنزل، تتدافع الذكريات لتدمي مقلتيه عندما يعود من عمله فلا يسمع أصوات الأولاد مهلّلين بعودته ولا يراهم يتزاحمون من أكبرهم حتى أصغرهم ليعانقوه ويلاعبوه قبل الانصراف الى دروسهم وألعابهم. البيت اليوم مقفر، لا طعم للحياة فيه ولا لون. وحدها سمر هي الرمق الأخير للحلم. يتجرّع زاهر الكأس المُرة بصمت على مضض، ليتهرّب من الاجابة عن سؤالها المتكرر عن مصير أخوتها. «أترك المهمة لأمها عندما تسألني أين أخوتي.. لا أعلم بأي جواب تخدّر قلقها الذي لا يلبث يعاود السؤال بالحاح».ولدى سؤاله عن الجاني الذي قتل أولاده، يؤكد زاهر أنه «الجاني نفسه الذي يقتل كل اللبنانيين، فالصواريخ معروفة المصدر كعين الشمس، وهي جاءت من منطقة لبنانية قريبة وليس من خلف الحدود كما تقول السلطات الرسمية»، مرجحاً «أن تكون عرسال كلها تدفع ثمن مواقفها السياسية».وبعبارة «لا أعلم ما الذي يُطبخ لهذه البلدة»، يتوقّع «ابو الشهداء» زاهر الأسوأ، ويضيء لـ «الراي» على ما يقول انه «سوء المعاملة التي يَعامل بها العرسالي من الأجهزة الأمنية»، لافتاً الى أنه «عند نقل سمر الى المستشفى لمداواتها من الاصابة، لم يقبلوا ادخالها قبل الاطلاع على نشرتها (القضائية)».ويضيف: «في اليوم التالي، ذهبنا لزيارتها فأوقَفنا حاجز الجيش واحتجزنا أنا ورجل آخر من عرسال. وفيما كنتُ أسرد لهم مصابي، كان العناصر يكبّلوننا بشرائط بلاستيكية ليتم اقتيادنا الى ثكنة قريبة دون أي وجه حق. ثم بعد مرور الوقت فكوا قيدنا بحجة الاطلاع على نشرتنا التي دحضت الاشتباه بنا، بحسب ما قالوا. لماذا هذا الذل المتعمد لأبناء عرسال؟»، مؤكداً أن «الجيش اللبناني بات طرفاً وهو لا يتوانى عن اهانة أيّ عرسالي».زاهر ومَن تبقى من أسرته، الذين يطوّقهم الحزن كواقع لا انعتاق منه، لم يتقبلوا حتى الآن فكرة الغياب أو يصدّقوها حتى. وهم لا يعلمون كيف ستكون الحياة من دون الذين رحلوا... وحدها سمر تبقى «زهرة» أيامهم التي نخرتها «أشواك» موتٍ طرق بابهم 5 مرات في «زيارة» واحدة خطفت فلذات اكبادهم الخمس الذين غادروا المنزل في رحلة... بلا عودة.
متفرقات - قضايا
«الراي» في عرسال... رائحة البارود تهب من يبرود / يارا ومحمود وعدلا وسحر ومحمد أرادوا تفقد سقوط القذائف فأرداهم صاروخ سقط بالقرب منهم
عائلة تقيم في «الجحيم»... هكذا قضى أطفالها الخمسة بصاروخ
03:42 م