هل خطت تونس، بالتوافق على دستور البلاد بنسبة توافقية عالية، خطوتها الأولى في الطريق الصحيحة نحو استكمال ثورتها ـ وقد كانت البادئة بالنهوض ـ وبناء الدولة بناء ديموقراطياً، تداولياً، سلمياً، يعتمد المواطنة أساساً جامعاً لكل أطياف المجتمع التونسي؟هذا هو المأمول.بل هذا هو الأمل في قلوب أبناء كل شعب من شعوب البلدان العربية، سواء التي حلّ فيها الربيع العربي أم الأخرى. ولِمَ لا نقول بأن آمال الشعوب عامة في بلدان العالم الثالث إنما تتركز على أن تحيا بكرامة وحرية دون قهر أو ظلم أو استبداد.وبقدر ما يكون الأمر معقّداً، بقدر ما هو في جوهره يكون بسيطاً. فتونس كان يمكن لها أن تستمر في الخلاف والتنازع ومن ثم الاقتتال وصولاً إلى تهجير العباد وتدمير البلاد. وكان يمكن لها ـ وهو ما نشهده الآن ـ أن تتوافق مختلف قواها السياسية وأطيافها وفئاتها توافقاً ينجيها من محنة الخراب الرهيب.ألا تقوم بلدانٌ في مختلف أنحاء العالم على التوافق والتعاون ونبذ الاستئثار والعدالة والقانون؟ ألا توجد بلدان واجهت مشاكل وأزمات، ثم تجاوزتها بالتي هي أحسن وفق القول الشهير؟كيف صار لها ذلك، وفيها ـ بطبيعة الحال ـ اختلافات في الرؤيا، ومصالح، ومآرب، وقوى متعارضة البرامج والأهداف، واتجاهات ومذاهب متباينة، مثلها في ذلك مثل مختلف شعوب الأرض في مختلف البلدان؟!تلك الشعوب التي قامت الحياة فيها على مبدأ التوافق ليست من طينة أخرى، ولا هي من أعراق رفيعة، في حين أنّ عرق شعوبنا وضيع!! وشعوب تلك البلدان ليست من جنس الملائكة ونحن من جنس الشياطين!! لا يمكن لعاقل أن يقرّ ذلك.كل ما في الأمر أنهم توافقوا. وجدوا قواسم مشتركة. أرضاً خضراء يقفون عليها، معاً، ويحيون معاً. وحين أقدمت تلك البلدان على نبذ التناحر والاقتتال لم يكن أفرادها ولا سلطاتها خالية من نزعة الاستئثار والتسلّط والاحتكار وما شاكل ذلك.ومرة أخرى كان يمكن لقوى تونس المتعددة أن تنحو نحو التنابذ والتمترس خلف مذاهبها وبرامجها واتجاهاتها، فإما أن يكون لكل حزب وتيار وقوة سياسية ما يراه الأصوب للبلاد وإما الدخول في الصراع واللجوء إلى القوة.توافق الشعب التونسي على نص الدستور، وبتلك النسبة المرتفعة، ينفي نفياً تامّاً صفة الرومانسية والخيال على القول بإمكان التوافق. وخطوة تونس الأولى هذه يمكن أن تشكّل نهجاً لخطوات أخرى.هل من الحتمية التي لا مفرّ منها أن نتنازع ونتصارع؟ هل من الضرورة المطلقة أن نحتكم إلى السلاح والقوة، ونزعات الهمجية، وشريعة الغاب، كي يحظى كلٌ منا على حدة كلَّ ما نريده دون استثناء؟!هل قدر شعوبنا أن تهدر دماؤها وحيواتها لتحقّق ألف باء الحياة الكريمة، في حين أن قدر الشعوب الأخرى أن تمضي بسرعة الضوء نحو ما بعد الأحرف الأبجدية كلها؟!التوافق على الدستور في تونس- من حيث الفكرة والمبدأ- يفيد أن بالإمكان. بالإمكان نبذ هدر الدم، والتغلّب على النزعات الخاصة والمصالح الخاصة الضيقة، والبحث عن سبيل يحقق الحياة من دون القضاء على الحياة. الأمر ليس وهماً ولا حلماً رومانسياً!
محليات - ثقافة
مقال / ليس حلماً!
07:17 م