من المؤكد أن البلدان التي شهدت الربيع العربي لم تجنِ شعوبها ما رنت اليه!اليوم، في قلب كل مؤيد منتصر للثورات التي قامت، أو الانتفاضات، أو أي تسمية كانت، تصوّر آخر لنتائج الثورة، امتلأ به وظل يسكنه طيلة سنوات كثيرة. في قلب كل مَنْ حلم بالتغيير يوماً صورة أبهى وأرفع وأعمق من صورة ما يجري الآن.حتى على المتفائلين هيمنت الخيبة، أو الحزن. حتى على الذين فكّروا بأن شعوبنا لن تبقى خانعة، تتحمّل الظلم، وبأن الحكّام الذين استبدوا لن يتاح لهم الاستمرار بالظلم والاستبداد والتعسف، وبأن الفجر سينبلج ولو متأخراً... يشهدون الآن ما يغاير آمالهم وأحلامهم وتصوراتهم.ما من سبيل للمكابرة. في أعماق القلوب غصّة مريرة، حزن أو خيبة لا يمكن نكرانها. فحجم الحلم بالتغيير كان أكبر، وأجمل، وأعمق. حجم الحلم بأن تنهض شعوبنا، وتواكب بقية شعوب العالم كان أقوى وأثبت. وحجم الحقائق على الأرض كان يوحي بأن الأمر ممكن.وحدث أن نهضت شعوبنا.نهضت، ولكن من تحت ركام أزمان طويلة من الاستبداد. نهضت، بعد أن تغلغل فيها الفساد والوصولية والمحسوبيات والنجاء بالنفس دون التفكير بالآخرين. نهضت وهي تحمل ارثاً ثقيلاً من الخراب. فالشعوب على دين حكّامها، كما يُقال.نحن لسنا براء مما تمّ تلقيمنا به على مدار عشرات السنين. ونحن لسنا على درجة من الصفاء والنقاء والنزاهة وما الى ذلك، في حين أن حكّامنا على العكس تماماً. بضرورة التربية والاعتياد الطويل بتنا مشوهين. لسنا البديل الأبيض الناصع في مقابل السواد الكالح. فينا مما في حكّامنا، والقوانين الشوهاء التي حكمتنا، والعسف الذي أحاق بنا.تلك هي المشكلة الكبرى.أسقطنا حكامنا، بيد أن آثارهم وما غرزوه فينا على مدار سنين وسنين، وما نشأنا في ظلّه، وتشرّبنا من اعوجاجه ومضارّه مازال فينا. نحتاج الى أزمان لنبرأ.الهدم والتدمير والتخريب أسهل الأفعال. البناء هو الصعب، وهو الجهد، وهو الذي يحتاج الى أزمان مضاعفة. كل ذلك الآن مطروح على شعوبنا، وهو مطروح مع أزمانه الموضوعية خارج رغباتنا. ما الذي نتوقع من شخص كُبِّل وكُمِّم لثلاثين سنة أو أربعين حين يتحرر؟ كيف سينهض، وكيف سيمشي، وكيف سيتحرك؟ليس حسناً ما يحدث الآن في بلدان الربيع العربي، بل هو يشبه خريفاً أو شتاء زمهريراً. ولكن ما العمل ازاء ارث ثقيل ورثناه؟ ليس تبريراً هذا الكلام، وانما هو محاولة تفسير. محاولة كشف ومكاشفة.الحرية تحتاج الى تدريب، الى تعوّد، الى تعلّم، الى تراكم، والى تغلغل في الدم والعقل والعادات والرؤية والمسلك. لهذا قيل ان اسقاط الأنظمة هي الخطوة الأولى على الطريق الطويلة الى الحرية. حتى نصل اليها نحتاج الى مراحل طويلة، وتنازع كثير، واختلاف دموي ـ كما نشهد اليوم- طويل أيضاً!مع الأسف؟ بالطبع مع الأسف. وبكل حزن؟ بالطبع بكل حزن. ولكن ما من سبيل. الى اليوم سنجد من أبناء الشعوب العربية- وليس فقط من رجال السلطة والمستفيدين من الأنظمة السابقة- سنجد مَنْ يدافع وينافح عن الأنظمة والسلطات. سنجد من يأسف لسقوطها. سنجد من يلهج باسم هذا الزعيم أو ذاك!ما العمل؟ تلك هي سيرة حيوات شعوبنا، وتلك هي أقدارنا، وقبل ذلك وبعده، تلك هي أقدار شعوب سبقتنا الى النهوض وحاولت تغيير ما كانت عليه من ظلم وظلامية. والى أن ننال الحرية الحقيقية سنصبر ما وسعنا الصبر، وسنحاول.
محليات - ثقافة
مقال / مكاشفة!
07:16 م