سيرة النبي العطرة وهدي رسولنا المجتبى، وحياة خير البشر تناولها الجميع بين قاصٍ استلهم منها أروع المواقف الإنسانية، ومفسر استنبط من خلالها وقفات تدرس إلى قيام الساعة، وخطيب مفوه ألهب بما تحويه من عبر مشاعر مريديه وطلابه...أما ونحن اليوم نعيش ذكرى مولده فلا نملك إلا أن نعيد كتابة بعض من فصول سيرته ولكن بنظرة علم النفس، ورؤية علماء الاجتماع في تلك الشخصية التي لن يجود الزمان بمثلها، ذلك النبي الذي «أدبه ربه فأحسن تأديبه».سنبحث في تلك السطور عن سمات شخصية -صلى الله عليه وسلم- تلك السمات التي مكنته من انجاح الدعوة الاسلامية وترسيخ مبادئها في نفوس من أمن به إلى قيام الساعة.يقول علماء النفس «إن لكل شخصية سماتها التي تعرف بها وتشتهر، وهذه الشخصية لها أسلوبها الخاص في التعامل مع الناس والاشياء وفي النظر إلى الامور من خلال ذوقه وطريقته الخاصة».هذا ما يقوله علماء النفس عن سمات الشخصية ولكن حينما نتحدث عن شخصية سيد الخلق الرسول الكريم سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) فسيكون الموضوع غاية الصعوبة.لأننا نتحدث عن شخصية سبقنا القرآن الكريم بأكثر من أربعة عشر قرنا بالحديث عنها وعن سماتها ومكوناتها وأسهبت كتب السيرة العطرة في التحدث عن صفات صاحبها الرسول الكريم واخلاقه وتربيته التي مكنته من انجاح الدعوة الاسلامية والبلوغ بالرسالة المحمدية إلى غايتها إيمانياً وسياسياً واجتماعياً وانسانياً.فكان صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم ارسله المولى عز وجل رحمة للعالمين ومنحه تعالى صفتين من صفاته هما الرأفة والرحمة في قوله تعالى «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم» سورة التوبة: 128.واتسم الرسول الكريم بصفات مكنته حتى قبل بعثته أن يتسلل إلى قلب كل رجل من قريش من خلال موقف أو تجربة، لذا اشتهر بين قومه بالصادق والأمين والشجاع والعادل والرحيم، وما لبثت تلك الصفات أن أصبحت عنوانا له بعد أن خصه الله ليكون خاتم أنبيائه، فهو الصبور الحليم الذي يعفو عند المقدرة كريم النفس واسع الصدر، أحسن الناس عشرة يدفع بالتي هي احسن ويتسم سلوكه بالحياء الجم حياء أشد من حياء البكر في خدرها.والقرآن الكريم حافل بالآيات التي توضح صفات الرسول الكريم بأسلوب علمي يعتمد على الحقائق الطبية والنفسية والعلمية تناول بالشرح العلمي سمات شخصية الرسول القائد والمبدع الداعي للسلام والذي هو سمة اصيلة في شخصيته الكريمة.في هذه الدراسة نقدم البراهين العلمية الحديثة المستندة لعلمي النفس والاجتماع على ان الرسول الكريم «محمدا» عليه الصلاة والسلام «عظيم» في كل ميزان.عظيم في ميزان الدين وعظيم في ميزان العلم وعظيم في ميزان الشعور وعظيم في ميزان الانسانية وعظيم في ميزان السياسة والقيادة.والقرآن الكريم حافل بالآيات التي توضح صفات الرسول الكريم وكذلك كتب السيرة العطرة التي وصلت الينا خلال اربعة عشر قرنا من الزمان نتناولها بعدما وصل العلم والطب مراحل متقدمة من التطور واعتماد البرهان والدليل العلمي القائم على البحث والدراسة.ومن خلال تطور علم النفس الحديث نستطيع ان نكتب السيرة العطرة من خلاله فنجد ان من سمات شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فطنة الوجدان والتواصل الوجداني والتأثير الوجداني والبصيرة الصائبة.فطنة الوجدانالفطنة هي شيء اعلى من الذكاء إذ هي رؤية كلية شاملة فهي ليست نشاطا ذهنيا فحسب ولكنها ايضا نشاط وجداني اي ما يسمى بذكاء العاطفة او ذكاء الوجدان.والوجدان هو وسيلة الانسان للوصول إلى الناس والتأثير عليهم إذ لا تفاعل انسانيا الا من خلال نشاط وجداني لان الوجدان هو الذي يحب ويكره ويغضب ويسخط ويتألم ويفرح ويحزن ويتحمس ويفتر فكل ذلك نشاطات وجدانية يتحقق من خلالها الاتصال مع البشر.والانفعالات الطارئة ليست هي الوجدان بل هي موجات وفورات مصدرها الوجدان الذي يتأثر لحظوياً بمواقف معينة.اما الوجدان فهو الحالة الشعورية المستقرة والثابتة معظم الوقت والتي تميز شخصية الانسان وتميز الجانب العاطفي او الجانب الانساني في شخصيته.اما صاحب الوجدان البليد والخامل والمنطفئ والغبي فلديه علاقات انسانية مضطربة ولديه صعوبات جمة في الحياة وهو دائما في حالة مواجهات حادة مع الناس فهو انسان تعيس ومصدر لتعاسة الاخرين.اما الانسان فطن الوجدان فيتمتع بعلاقات ايجابية ثرية مع الناس تشع بالدفء والاقناع.وفطنة الوجدان التي كان يتمتع بها الرسول الكريم هي الهدوء المتزن المستقر الذي يوحي بالثقة والطمأنينة والوصول إلى الاهداف والانجاز والابداع.انها الضمير اليقظ والقلب العطوف والصدر المتسع المنشرح والشجاعة والامانة والاخلاص والوفاء.وفطنة الوجدان لها ثلاث حلقات تتلاحم وتتتابع وتتحدد وتقود احداها إلى الاخرى في تناغم وهي النضج الوجداني والتواصل الوجداني والتأثير الوجداني.وكل هذه الحلقات والتأثيرات كانت من سمات شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.نضج الوجدان وتأثيرهاما نضج الوجدان فيتحدد بالقدرة على ادراك المشاعر بدقة وموضوعية والتحكم في الانفعالات بضمير ايجابي وبصيرة صائبة.اما التواصل الوجداني فيتحدد بالقدرة على تفهم مشاعر الغير وتقدير رؤيتهم والتفاعل معهم في الاتصال والانصات والتعاطف والمشاركة الوجدانية وكياسة الاستجابة لهم.اما التأثير الوجداني فيتحدد بالقدرة على استخدام الحجة القوية في الاقناع والحسم الايجابي للصراع واظهار القدرة وزيادة التغيير والحث على نشر روح المودة والتسامح والمحبة والتعاون بين الناس. وهذه العناصر الثلاث هي التي تحدد فطرة الوجدان.البصيرة الصائبةانها عين الله التي يرى بها الانسان ما لا يراه الاخرون وهي ذلك الاحساس المرهف الذي يتوقع ويستشف فهي الصفاء الذهني الذي يرسم صورة ما هو مقبل وما هو خارج عن نطاق العين البشرية وهي الصورة الحقيقية التي تنطق بالحق رغم كل المعوقات الخارجية التي تعوق الرؤية.البصيرة الصائبة هي تلك الرؤية المسبقة او السابقة على حدوث الموقف او الحدث من دون ان تتوافر كل المعلومات ومن دون ان يكون هناك ضوء كافٍ إذا فهي الضوء الساطع الذي يمتد وينتشر إلى الامام.ان المشاعر هنا تشترك في القرار انه الوجدان الفطن انه مزيج من العلم والمعرفة والخبرة والمشاعر الطيبة الجيدة.هناك انسان يرى بقدراته الذهنية فقط مجرد حسابات وتوقعات مبدئية على هذه الحسابات وهي رؤية لها حدود لان آفاقها على قدر ما هو متاح من معلومات وما تراكم من خبرة.ولكن صاحب البصيرة الصائبة ابعد وأعمق لانه لا يعتمد على الحسابات الذهنية فقط بل هناك معرفة اخرى وهي المعرفة القلبية او المعرفة الباطنية.انها ذلك الشعور القوي المسيطر الملح الذي يوجه الانسان نحو وجهة معينة فهي تلك البوصلة الهادية التي ينجذب مؤشرها قصرا نحو اتجاه معين انها الشفافية التي بعدها يأتي الانكشاف. ولنقل انها الالهام او لنقل وهذا هو الادق والاصدق انها عين الله التي يرى بها انسان معين اختاره الله لهذه النعمة العظيمة. وهذا الانسان ينتقل من موقع العلم إلى موقع الحكمة.والحكمة هي رؤية اشمل واعمق وادق رؤية تكشف وتنبئ عن المستقبل. هذه هي البصيرة الصائبة التي تمتع بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ففاق كل رؤساء القبائل وملوك ورؤساء وامراء الدول في القيادة والزعامة وانتشرت الدعوة الاسلامية بفضل سمات شخصية الرسول الكريم.الضمير الايجابينضج الشخصية لابد له من قاعدة اخلاقية فالنضج هو الحكمة والتوازن والعدل والانصاف والنزاهة واحقاق الحق والموضوعية والصدق والشجاعة.اذا نحن امام مجموعة من القيم الاخلاقية تشكل الضمير الانساني فلا نضج بلا ضمير والضمير يقود نحو الخير ونحو الرحمة.ولا تستقيم الحياة من دون ضمير ايجابي مغروس وملتحم في نفوس البشر والذين يتمتعون بهذا الضمير الايجابي يتصرفون بأخلاقيات رفيعة ويكون سلوكهم فوق الشبهات ويواجهون التصرفات غير الاخلاقية في الاخرين بشجاعة وحزم ويأخذون المواقف القائمة على المبادئ ولو كانت لا تحظى بالشعبية أحياناً. انهم يوفون بالتزاماتهم ووعودهم ويتحملون المسؤولية عند تنفيذ الاهداف.وهذه السمة يتمتع بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بل هو اعظم ضمير ايجابي في الخليقة واصلح به حال القبائل العربية وهداهم إلى الاسلام ونشر العدل والحق والاخلاق الكريمة والسلام في الجزيرة العربية.