توج انطلاق محاكمة المتهمين باغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري امام محكمة خاصة قرب لاهاي، أمس، مساراً معقداً حكم الواقع اللبناني على مدى نحو تسع سنوات شكّل خلالها ملف التحقيق الدولي في جريمة 14 فبراير 2005 ثم انشاء المحكمة الخاصة بها «المسرح الخلفي» تارةً و«الجبهة الامامية» طوراً لـ «معارك» بالسياسة وحتى بالأمن عكست الطابع «ما فوق العادي» للاعتداء الذي استحق لقب «جريمة العصر».«زمن العادلة» بدأ بعدما كان شعاراً رفع منذ 14 مارس 2005 (تاريخ ما يُعرف بـ «ثورة الأرز») وصار «حقيقة» يراد لها ان تضع حداً لزمن «الافلات من العقاب»، الا ان وقائع القرار الاتهامي الذي باشر فريق الادعاء في المحكمة الخاصة بلبنان تلاوته امس واتهم فيه اربعة من «حزب الله» (من اصل خمسة) بارتكاب جريمة قتله اثارت مخاوف من انعكاساتها المحتملة على الاوضاع في لبنان.في لايتشندام (احدى الضواحي الشمالية لمدينة لاهاي)، كانت «المشهدية» ذات رمزية استثنائية قضائياً وسياسياً وانسانياً. ففي قاعة اول محكمة خاصة تتشكل بقرار من مجلس الأمن للنظر في «تفجير ارهابي»، كان الحريري الغائب الاكثر حضوراً في عيون مغرورقة بالدموع لنجله وخلفه سعد الحريري الذي تقدّم الحاضرين، في الصور غير المعروضة سابقاً عن آخر لحظاته قبل تفجيره عند الواجهة البحرية لمدينة بيروت وهو يلوّح بيده قبل ان يستقل سيارته مغادراً مقهى «بلاس دو ليتوال» في ساحة النجمة قبل ان تغدر به الجريمة - الزلزال.ووضع امام القضاة مجسّم لموقع الانفجار استخدمه الادعاء لمعاودة رسم مسرح الجريمة بين فندق السان جورج ومصرف «اتش اس بي سي» وتحديداً عند منعطفٍ أريد له ان يغيّر «وجهة سير» لبنان وربما وجهه.وفتحت محطات التلفزيون شاشاتها التي نقلت وقائع بدء المحاكمات امام الغرفة الاولى في المحكمة وذلك بعد نحو ستة اعوام وتسعة اشهر على ولادتها في 30 مايو 2007 بالقرار 1757 الصادر عن مجلس الامن تحت الفصل السابع ونحو 5 اعوام على انطلاق عملها رسمياً في الاول من مارس 2009 ونحو عامين ونصف العام على المصادقة على القرار الاتهامي بحق كل من مصطفى أمين بدرالدين، وسليم جميل عياش، وحسين حسن العنيسي، وأسد حسن صبرا.وبدأت المحاكمة بتلاوة القرار الاتهامي للادعاء في حق المتهمين الاربعة (سيستمر اليوم) بحضور فريق الدفاع عنهم.وقد افتتح رئيس المحكمة الدولية الخاصة بلبنان دايفيد باراغواناث الجلسة عارضاً المراحل التي ستتخللها جلسات المحاكمة. ثم اعلن رئيس غرفة الدرجة الاولى في المحكمة القاضي الاوسترالي دايفد ري «بدء الاستماع الى الشهود في قضية اغتيال رئيس الحكومة الاسبق رفيق الحريري الاربعاء المقبل»، موضحاً ان «الادعاء ينوي استدعاء مئات الشهود».بعدها أشار المدعي العام للمحكمة نورمان فاريل الى انه «رغم جهود المرتكبين لاخفاء تورطهم في هذه الجريمة الا ان الحقيقة لا تحتجب»، موضحا ان «المتهَمين سليم عياش ومصطفى بدر الدين مع آخرين أعدوا ونفذوا هذا التفجير»، مشيرا الى ان «هناك جهات داخلية وخارجية خططت لاغتيال الحريري». وأوضح ان «الحريري وضع تحت مراقبة المجرمين قبل اغتياله بـ 3 أشهر».ثم عرض القاضي الأحداث التي شهدها يوم 14 فبراير، معددا الأشخاص الذين تحدث معهم الحريري في مجلس النواب وبعد مغادرته. وقال: «بينما وصل الرئيس الحريري الى المقهى نعرف أن فانا أبيض مر عبر نفق سليمان فرنجية ثم قرب فندق سان جورج»، معددا الأماكن التي سلكها الفان. أضاف: «سيبين الادعاء أن تغيير وجهة سير الحريري أدى الى تجميد الاغتيال لفترة ريثما يواصل الحريري طريقه. وعندما قرر الحريري مغادرة البرلمان قاد سيارته بنفسه ومعه باسل فليحان».وتحدث عن موكب الحريري وما يتضمّنه من سيارات وكل سيارة وما هو دورها. وقال: «تُبين صورة جوية لبيروت أن الموكب انطلق باتجاه البحر وصولا الى المارينا والالتفاف عليها. وبينما كان يسلك ذلك الاتجاه تبين لنا أن سيارة فان بيضاء انتقلت الى قرب السان جورج يعتقد أنها الفان نفسه الذي شوهد في النفق»، وأضاف: «تبين أن الفان مر عبر المساحة التي تغطيها عدسة الكاميرا التي صورت تحركاته من اليمين الى اليسار وكان يسير ببطء شديد حتى حصل الانفجار الساعة 12.55». وكان الموكب على وشك تجاوز الفان لحظة وقوع الانفجار. والسائق كان انتحارياً. والعبوة فجرت يدويا، وما من أدلة عن تفجيرها عن بعد، لاسيما وأن سيارات الحريري كانت مزودة بجهاز تشويش للتفجير عن بعد وكانت شغالة. ووجدت آثار حمض نووي تعود الى جثة مجهولة تحولت الى أشلاء ويمكن أن تكون جثة الانتحاري».وأكد أن «قوة الانفجار الذي أحدث اهتزازا سجله مرصد بحنس، وهي دفعت الحريري خارج السيارة ما يؤكد وفاته بسرعة»، واصفا اللحظات الأولى لمشهد اغتيال الحريري بـ «جحيم من صنع الانسان».وبعدما رُفعت الجلسة لنصف الساعة بهدف الاستراحة، أشار القاضي كاميرون الى أن «السيارة التي ظهرت في الكاميرات هي فان ميتسوبيتشي نقلت من دولة الامارات وتم بيعها في معرض للسيارات في لبنان». وعرض بقايا محرك الميتسوبيتشي «التي اختفت من مسرح الجريمة».وأكد أنه «تمت المقارنة بين الحمض النووي لأبو عدس (الذي ظهر زوراً في شريط فيديو متبنيا الانفجار) والأشلاء لم تكن متطابقة، وأنه تم التأكد من أن أجزاء السيارة المنفذة هي للميتسوبيشي».ولفت الى أن «حجم العبوة بلغ 2 طن من مادة RDX المستخدمة عسكرياً وحجم المتفجرة وشكلها تؤكد أنها كانت محمولة على ظهر الشاحنة»، مشيرا الى أن «المجموعة المنفذة هي جزء من مجموعة أكبر»، ولافتا الى أن «اثنين من المنظمين كانا مسؤولين عن التفجير، والمتهمون الآخرون تعاونوا معهما».وقدم عرضا حول أجزاء من الأدلة ضد المتهمين، مشيرا الى أن «حيلة محكمة حيكت قبل أسابيع من التفجير لتحويل الانتباه من خلال الفيديو الذي تم عرضه لابي عدس والذي كان لتشويه الحقائق وخداع المواطنين».وأشار الى الى «4 أنواع من مجموعات الهواتف الخليوية المستخدمة وهي: التتابعية والشخصية والمعروفة بلونها والمهمة»، مؤكدا أن «الهواتف المهمة تشكل أدلة قاطعة استخدمت كأدوات عملية في الاعتداء»، معلنا أن «الادعاء سيبرهن أن الهواتف تم شراؤها لادارتها كمجموعة واحدة»، مشيرا الى أن «الوثائق المقدمة للحصول على عقود شركات الهواتف كانت مزورة وقد استخدمت للحؤول دون التعرف على مستخدمي هذه الهواتف».وعرض أدلة عن طبيعة الهواتف الخليوية وكيفية استخدامها، مشيرا الى أن «شخصا واحدا كان يسدد فواتيرها»، مؤكدا أن «هذه الشبكة من الهواتف الـ 18 تعتبر أدلة دامغة استخدمت لأغراض غير شرعية تجلت باغتيال الحريري وقد دفعت مبالغ طائلة للحصول عليها كشبكة هاتفية مغلقة للتنسيق قبل الانفجار وتم توقيفها بعد الانفجار».

الحريري: المحكمة انطلقت ونريد العدالة لا الانتقام

في اول تعليق له على انطلاق المحاكمات الغيابية في جريمة اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، اعلن الرئيس السابق للحكومة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري من لاهاي ان «وجودنا هنا اليوم هو بحد ذاته دليل على ان موقفنا منذ اللحظة الاولى وفي كل لحظة كان وسيبقى طلب العدالة ولا الثأر، وطلب القصاص لا الانتقام».وقال الحريري في تصريح في فترة استراحة المحكمة الدولية «ان الاصرار على عدم تسليم المتهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري هو جريمة مضافة الى الجريمة الكبرى، وما كنا نتصور أن يكون في صفوف اللبنانيين من يبيع نفسه للشيطان ويتطوع لقتل الرئيس رفيق الحريري. وقد هالنا بالتأكيد ان تكون هناك جهة لبنانية متهمة بأدلّة مسندة، وهذه الحقيقة جارحة وموجعة، ولكنها باتت حقيقة لا تنفع معها محاولات التهرب من العدالة والمكابرة في ايواء المتهمين وحمايتهم»، معتبراً ان «جريمة اغتيال الحريري ورفاقه وجرائم الاغتيال السياسي التي شهدها لبنان ادت الى تخريب الحياة السياسية».واضاف: «اليوم هو يوم تاريخي بامتياز والرئيس رفيق الحريري كان حاضرا بقوة ومعه كل الشهداء الذين قضوا معه والذين سقطوا من بعده وصولا الى اخر الاحباء الوزير محمد شطح اضافة الى مئات الضحايا الذين حصدتهم جرائم التفجير السياسي»، مشددا على «ان المحكمة الدولية لاجل لبنان انطلقت ومسار العدالة لن يتوقف ولا جدوى بعد اليوم من اي محاولة لتعطيل هذا المسار».وتابع: «ها هي ابصار اللبنانيين وعواطفهم مشدودة منذ اليوم الى المحكمة التي فتحت اولى صفحات العدالة الحقيقية، ووضعت حجر الاساس المطلوب لوقف الاغتيال السياسي والجريمة المنظمة في لبنان والعالم العربي، وأشدد على دور السلطات اللبنانية المختصة على التعاون الجدي مع المحكمة، واتوجه بالشكر الى القضاء اللبناني والاجهزة الامنية على التعاون مع التحقيق، خصوصا الشهيدين اللواء وسام الحسن والنقيب وسام عيد، والشهيد الحي العميد سمير شحادة، واشكر فريق التحقيق الدولي والمدعين الذين تعاقبوا على متابعة التحقيقات».واكد انه «زمن العدالة للبنان وسيبقى طلب العدالة لا الثأر وطلب القصاص لا الانتقام في قاموسنا، والرد على العنف لا يمكن ان يكون بالعنف بل بمزيد من التمسك بانسانية الانسان وبالقانون والعدالة».

حضور ذوي الضحايا

نقلت وقائع الجلسة عبر اكثر من 120 وسيلة اعلامية وواكبها من القاعة حشد من الديبلوماسيين الذين مثّلوا الدول الداعمة لعمل المحكمة وبينها روسيا.وحضر ذوو كل ضحايا الاغتيالات (عددهم 11) التي وقعت منذ فبراير 2005 وحتى 27 ديسمبر 2013 (تاريخ اغتيال الوزير محمد شطح) اضافة الى مَن يوصفون بـ «الشهداء الاحياء»، مروان حماده، والياس المر، ومي شدياق.وجلس إلى جانب الرئيس سعد الحريري في قاعة المحاكمة عدد انتقته إدارة المحكمة من ذوي الضحايا الذين سقطوا في 14 فبراير 2005، هم: سحر قلعاوي، عن ولدها محمد درويش، وغنى غلاييني، عن زوجها عبد الحميد غلاييني، وماريا الكستي التي أصيبت بجروح في مصرف «أش.أس.بي.سي» حيث كانت تعمل، روبير عون عن شقيقه جوزف أميل عون، محمود وزان الذي تضرر محله قرب فندق سان جورج وجُرح موظفوه فيه.كما حضر متضرران آخران، ولكن لم تلتقط لهما الصور ولم تحدد هويتاهما، بناء لطلبهما.