سنوات من عمري أفنيتها ما بين الألغام والقنابل التي خلفها الغزو الصدامي. فرّغتني الدولة لذلك. كان هذا هو تخصصي. أو بالأحرى كان هذا هو أقرب الأعمال لتخصصي المكتوب في شهادتي الجامعية، وهو «صناعة المتفجرات». كنت أول كويتي يحصل على شهادة جامعية في هذا التخصص. لم تكن رغبتي بل رغبة وزارة الدفاع. ولا أدري لماذا طُلب مني دراسة التخصص هذا بالتحديد في دولة ليست صناعية! على أي حال، فرض عليّ الواقع تغيير التخصص، فبدلا من أن أصنع أو «أحيي» القنابل، كنت أقتلها. فقد كان «التعامل مع القنابل والألغام والأجسام المتفجرة» وظيفتي التي أتقاضى عليها أجرا. كانت مهمتي وزملائي هي تفكيك الألغام لإبطال مفعولها، أو تفجيرها في حال تعذر التفكيك. كذلك الحال مع القنابل وغيرها.فترة رومانسية قضيتها متنقلا ما بين الألغام والقنابل وصافرات الإنذار وأصوات الانفجارات... لي حكايات لا تنتهي مع القنابل والألغام. كانت إحداها حكاية المخيم الذي كان يبنيه أهله بالقرب من حاوية قنابل عنقودية مفتوحة (الطائرة تقذف بالحاويات فتنفتح كل حاوية وهي في الجو، وقبل ارتطامها بالأرض، فتتساقط منها القنابل العنقودية، لتكون جاهزة للانفجار نتيجة أي ضربة أو هزة لزعانفها المرتكزة، فتصبح بمثابة ألغام مبعثرة. بل هي أخطر من الألغام وأعقد). طلبت من أحد شباب المخيم التوقف عن استكمال البناء، وضرورة مغادرة الموقع لخطورته، لأنهم باختصار يخيمون في حقل ألغام. فأبلغهم بالأمر. وكانت الطامة. إذ خرجت عجوز من خلف إحدى السيارات وهي تولول بأعلى صوتها: يا ويلي ويلااااااااه، ورفعت ثوبها وأطلقت ساقيها للريح بسرعة أولمبية. وفي أي اتجاه؟ في اتجاه الحاوية المباركة! سقط قلبي بين قدمي، وعدوت خلفها، وأنا أصرخ بكلمات لا تصلح للنشر، لكن يمكن ترجمة كلماتي تلك بـ «توقفي يا ابنة الوغد»! ومن يلومني؟ فقد كانت «المقرودة» تجري على غير هدى وأنا أجري خلفها... في حقل ألغام.كانت أيام «أكشن»، تخللتها بعض الأيام الهادئة الساكنة، كاليوم الذي قضيته في تطهير «شاليه طروب» الخاص بصاحب السمو أمير البلاد، وكان حينها نائبا أول لسمو رئيس الوزراء، وكان الجو قائظا، ولشدة حرارة الشمس، دخلت الصالة لأرتاح قليلا، فلفحني هواء التكييف الذي تقمص شخصية «إبرة البنج»، فنمت، بملابسي ومعداتي، بعدما أغلقت جهاز اللاسلكي المزعج. بينما الشيخ وعائلته الصغيرة في بيتهم في «الديرة» ينتظرون إخطارهم بانتهاء المهمة! لكن المهمة امتدت إلى أن استيقظ «بو سلمان» عصرا، على أقل من مهله، لوحده استيقظ وبمجهوده الفردي، وطلب قهوة، وشربها هنيئا مريئا، وخرج يمشي الهوينا، وبعدما ركب سيارته، فتح جهاز اللاسلكي وتحدث مع المعنيين بصوت النائم: «الموقع آمن»! وضاع على الشيخ صباح وعائلته اليوم ذاك. ولا أدري هل كان عدم إيقاظي بأمر من الشيخ أم لا. لكنني نمت في شاليه الشيخ صباح بعدما منعت الجميع من الدخول، بخلاف الحارس. وكثيرا ما تندرت بذلك.مواقف عديدة لا تنسى قد أتطرق لها يوما، أو أياما، عن القنابل والألغام التي تهوّرت في التعامل معها أحيانا، وخفت أحايين أكثر... استشهد زملاء لي رحمة الله عليهم، بسبب المهنة، ونجوت وآخرون. «عمر الشقي بقي».لم أكن أعاني من مشكلة في التعامل مع المتفجرات. كنت أجلس أو بالأصح أسجد بالقرب من الجسم المتفجر وأتفحصه بعينيّ ومن دون لمس، وأقرر بعدها: تفكيك أو تفجير. وأقوم بإجراء اللازم. بسرعة... لكنني هذه الأيام أجد نفسي أمام حاوية خبيثة، كلما أبطلت قنبلة منها، فوجئت بأخرى. وآخرها كانت القنبلة الفتنة التي زرعها عبد الرحمن العوضي (وزير الصحة الأسبق، وأحد أسباب توقف وانهيار الخدمات الصحية في الكويت) عندما تحدث بسوء عن أبناء القبائل.مصيبة، عندما تنتفخ أوداج أحدهم من أموال البلد، فيسعى لشق العصا... بالفعل، الصغار صغار مهما كبرت كراسيهم، والكبار كبار لو لم يملكوا... حصيرة.معالي عبد الرحمن العوضي، «والنعم» إذا كان جالسا على طاولة، تحت التكييف، واضعا رجلا على رجل، وأمامه فنجان قهوة تركية سكر خفيف. أما في موقف غير ذلك، فليعذرني معاليه، لأن كلمة «والنعم» غالية.

محمد الوشيحي alwashi7i@yahoo.com