لم يعد السؤال في بيروت: هل ستُشكل الحكومة الجديدة؟ ومتى؟ بل السؤال الكبير هو: لماذا تَقرّر «الإفراج» عن حكومة احتُجزت لأكثر من تسعة اشهر؟ ولماذا الآن بالذات؟المواعيد الافتراضية لولادة الحكومة الجديدة تراوح... إما قبل 16 الجاري بقليل، وهو موعد بدء المحاكمات الغيابية في لاهاي لاربعة من «حزب الله» اتُهموا باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، او بعده بقليل.الرئيس المكلف تشكيل الحكومة تمام سلام يريد «الحكومة الجامعة» منتصف الاسبوع المقبل، أما رئيس الجمهورية ميشال سليمان فجعل 20 الجاري «خطاً احمر» للاعلان عن الحكومة، ايّ حكومة، جامعةً كانت ام حيادية.وتوحي الأجواء الغامضة حتى الان في بيروت بأن حظوظ تشكيل الحكومة الجامعة وعدمها متساوية لارتباط الأمر بمضمون البيان الوزاري في شكل اساسي، وهو «المانيفست» النظري الذي يحكم توجهات اي حكومة.غير انه وبغض النظر عن المآل الذي ستنتهي اليه المشاورات الماراتونية الجارية على مدار الساعة، فان مجرد وضع الصيغة الحكومية المتداولة على نار قوية أوحى بوجود «تبدلات» في موقف الطرفين الرئيسييْن، اي «حزب الله» و«تيار المستقبل».والثابت في هذا السياق، ان الثنائي «الماهر» المتمثل برئيس البرلمان نبيه بري وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط لعبا دوراً بارزاً في توفير الأجواء الملائمة لـ «التبدل الافتراضي» في موقفيْ «حزب الله» و«تيار المستقبل» من المأزق السياسي - الحكومي في البلاد.في التوقيت، يقول خصوم «حزب الله» ان الحزب الذي استدرج الخطر الأمني إلى داخل بيئته (سيارات مفخخة وانتحاريين) عبر تورّطه في سورية وتعطيله الحياة السياسية في لبنان، يحتاج إلى «طوق نجاة» على مشارف استحقاقات، من المرجح ان يدفع ثمنها، وهي:* بدء محاكمة اربعة من «حزب الله» من اصل خمسة، اتُهموا باغتيال رفيق الحريري، امام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في 16 الجاري، وسط تقديرات تتحدث عن «مفاجآت» مذهلة سيقدّمها الادعاء عبر القرائن والشهود، وهو الامر الذي قد يحدّ من وطأته وجود «حزب الله» وتيار الحريري معاً على طاولة واحدة في مجلس الوزراء.* حاجة ايران إلى تظهير الجانب الايجابي من سلوك «حزب الله» الحريص على انتظام المؤسسات في لبنان عشية زيارة وزير خارجيتها محمد جواد ظريف لبيروت غداً، وهي رسالة موجّهة إلى المجتمع الدولي مع العدّ التنازلي لجنيف السوري في 22 الحالي واستكمال لـ «المزاج الجديد» مع الغرب، الذي أرساه الاتفاق النووي.ويحلو لخصوم «حزب الله»، في هذا السياق، مقاربة «تواضعه المفاجئ» حيال المأزق السياسي - الحكومي على انه استشعار عن بُعد لمخاوفه من دفع أثمان المناخ الجديد في المنطقة، والذي أفضى إلى تخلي «محور الممانعة» عن أوراق القوة لديه، من «الكيماوي» السوري مروراً بالنووي الايراني وربما صولاً إلى سلاح «حزب الله» بعدما تحول عبئاً على المعادلات الاقليمية.غير ان الذين يعرفون «حزب الله» وعلى دراية بأولوياته وخياراته، يتحدّثون عن مبالغات أقرب إلى الأمنيات في تفسير الانفتاح الذي يبديه الحزب تسهيلاً لتشكيل حكومة جديدة في لبنان، رغم كلام «الصوت العالي» الذي كان ميّز نبرته قبل مدة، والذي كان الهدف منه طمأنة حلفائه بأنه لن يخضع لمحاولات ابتزازه باللعب على وتر تدخّله في سورية.وبدا ان «حزب الله»، الذي اوكل إلى شريكه في «الثنائية الشيعية»، اي إلى الرئيس بري إدارة عملية تشكيل الحكومة والتفاوض بالنيابة عنه، غير آبه لا للثلث المعطل، الذي كان انتزعه بقوة السلاح في 7 مايو 2008، ولا بـ «الثلاثية الذهبية» التي أصرّ على تضمينها في البيانات الوزاية السابقة كـ «سطرٍ» الهدف منه شرْعنة سلاحه، والقائمة على معادلة «الجيش والشعب والمقاومة».هذا السلوك من «إدارة الظهر» الذي فاجأ به «حزب الله» الجميع، سببه المكتوم هو ان الحزب الذي ينصرف إلى معركته «الوجودية» في سورية، يدرك انه يملك من القوة ووهجها ما يجعله رقماً صعباً يتجاوز اللعبة الرقمية في الحكومة وتوازناتها، والحياكات اللغوية في بيانها الوزاري. كل ما يريده «حزب الله» وجود وزيريْن له لعدم إمرار قرارات مشابهة لما جرى في 5 مايو 2008 تجنّباً لاضطراره إلى القيام بـ 7 مايو للردّ عليها.وبهذا المعنى، فان «حزب الله» غير منزعج من وجود وزير شيعي (العميد المتقاعد عبد المطلب حناوي) في حصة الرئيس سليمان، الذي تنتهي ولايته في 25 مايو المقبل، ولن يكون مضطرباً في حال جرى تجاوُز ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة»، ما دام يملك من فائض القوة ما يجعل الجميع مضطراً للتسليم بهذه القوة.ولم تحْرف محاولة تفكيك «شيفرة» التواضع المفاجئ في موقف «حزب الله»، الأنظار عن «الإحراج» الذي أصاب «14 آذار» ولا سيما «تيار المستقبل» في انفتاحها على مناقشة الصيغة الحكومية المقترحة (8 - 8 - 8)، للأسباب الآتية:* الانتقال من شعار رفْض المشاركة في اي حكومة يتمثل فيها «حزب الله» قبل انسحابه من سورية، إلى مناقشة امكان قيام حكومة سيايسة جامعة تضم «حزب الله».* اضطرارها إلى التخلي عن فكرة «الحكومة الحيادية»، وهو المصطلح الذي ابتكره الوزير السابق محمد شطح، الذي اغتيل أخيراً في عملية تفجير وُجهت اصابع الاتهام فيها إلى «حزب الله» ضمناً.* التزامن بين مناقشة إمكان الانضمام إلى حكومة يشارك فيها «حزب الله» وبين بدء محاكمة عناصر منه اتُهموا باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهو ما سيشكل انعكاسات سلبية عميقة على صورة «14 آذار».* رغم الاصرار على تضمين البيان الوزاري توصية باعتماد «اعلان بعبدا» كمستند سياسي - حكومي ينص على تحييد لبنان عن الأزمة في السورية وذلك كـ «تعويض معنوي» عن الاضطرار للمشاركة في الحكومة في ظل استمرار مشاركة «حزب الله» بالحرب في سورية، فان الامر لن يقلل من وطأة تغطية هذا التورط.لهذه الاسباب مجتمعة، بدت «14 آذار» في مقاربتها لعملية تشكيل الحكومة على اكثر من «سرعة». فـ «تيار المستقبل» بدا اكثر ميلاً للمشاركة وإن على قاعدة ضمانات واضحة، في الوقت الذي عبّرت «القوات اللبنانية» بزعامة سمير جعجع عن تريُّث واضح في القول نعم للمشاركة.والذين يغلّبون خيار المشاركة يقولون ان من الاجدى وجود حكومة قادرة على ادارة شؤون البلاد في ملاقاة الاستحقاق الرئاسي الذي قد لا يُتوّج بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتالياً فان من مصلحة «14 آذار» ان تكون على رأس الحكومة التي «سترث» صلاحيات الرئاسة، خصوصاً في ظل الوضع الاقليمي المفتوح على هبات باردة وهبات ساخنة.وبدا هؤلاء اكثر «براغماتية» في مقاربة المستقبل السياسي - الحكومي في البلاد، عبر قولهم انه اذا نجحت «14 آذار» في انتزاع مكاسب تضمّنتها اسئلتها الخمسة، فانها تكون أنهت مفاعيل انقلاب 2011 الذي أخرج الحريري ومعه «14 آذار» من السلطة وقطعت الطريق على ازمة نظام كانت تلوح في الافق مع الانزلاق المحتمل إلى فراغ رئاسي - حكومي.وكان يوم امس شهد تكثيفاً للاتصالات استكمالاً للمداولات التي لم تتوقف يوم الجمعة وسط اشارات إلى الحاجة لمزيد من المفاوضات لتذليل ما تبقى من عقبات. وبرزت في هذا السياق الزيارة التي قام بها رئيس «كتلة المستقبل» فؤاد السنيورة لرئيس الجمهورية ميشال سليمان حيث كان اجتماع وُصف بانه «جدي وصريح» وتمحور حول محاولة 14 آذار الحصول على الضمانات الكافية حول الاسئلة الخمسة التي طرحتها ولا سيما البيان الوزاري على اساس «اعلان بعبدا» والثلث المعطلّ.ولفت بعد اللقاء إبداء الرئيس سليمان «امله في ان ينجح الافرقاء السياسيون في ظل مناخ الايجابية السائد خلال الايام الاخيرة في التفاهم على قيام حكومة جامعة، تولي الاهتمام بشؤون المواطنين الحياتية والاجتماعية، وتواكب تطورات المرحلة المقبلة وما تواجهه من صعوبات وتحديات خصوصا على صعيد المنطقة»، معتبراً «ان ارادة التفاهم والتلاقي شكلت مبعث ارتياح لدى الرأي العام اللبناني»، وداعيا إلى «تقديم التنازلات المتبادلة لمصلحة الوطن من خلال حكومة تكون محط ثقة البرلمان واللبنانيين».من جهته اوضح المكتب الإعلامي للسنيورة «ان الاجتماع مع رئيس الجمهورية تناول كل المسائل التي تتصل بموضوع تشكيل الحكومة الجديدة وقد طرح خلاله الرئيس السنيورة العناوين التي بلورها تيار المستقبل، وكان اجتماعاً جدياً وجيداً كما كان صريحاً وشاملاً»، مشيراً إلى «ان الاجتماع ستتبعه اجتماعات واتصالات في الاتجاه نفسه مع المعنيين للبحث في الموضوع نفسه، تمهيدا لاتخاذ الموقف المناسب».وتَرافق موقف رئيس كتلة «المستقبل» مع اعلان رئيس حزب»القوات اللبنانية» سمير جعجع تعليقاً على «المداولات الهاتفية» لأكثر من ساعة بينه وبين الرئيس سعد الحريري ليل الجمعة لأكثر من ساعة «ان الحريري لم يتخذ قراراً نهائياً بعد ولم يقنعني بالمشاركة في الحكومة والمداولات مستمرة حول تأليف الحكومة»، ولافتاً إلى «اننا لم نقرر بعد المشاركة في حكومة 8-8-8».وواكب كلام جعجع مناخ تحدث عن توافق بينه وبين الحريري على اتخاذ موقف موحد من الملف الحكومي وعلى ان وحدة 14 آذار غير قابلة للمساومة، وهو ما جرى التطرق اليه خلال الاجتماع الذي عقدته هذه القوى مساء الجمعة في «بيت الوسط» (دارة الحريري) حيث تداولت في مستجدات التأليف من مختلف جوانبها وسط تأكيد «ان 14 آذار كيان عابر للاستحقاق الحكومي وأكبر منه».كما سُجل مساء اول من امس لقاء بين السنيورة والرئيس سلام للتدقيق في بعض الأجوبة وتوضيحها، علماً ان رئيس «كتلة المستقبل» اجتمع ايضاً في سياق استكمال المداولات الخاصة بالتأليف بالوزير وائل ابو فاعور (موفد جنبلاط) الذي التقاه في الإطار نفسه نادرالحريري (مدير مكتب الرئيس الحريري).
خارجيات
حركة مشاورات ماراثونية على مدار الساعة لإنضاج «طبخة» الحكومة
«التواضع» المفاجئ لـ «حزب الله» يفتح الشهية على أسئلة مثيرة في لبنان
12:36 م