في سوق شعبي، لفتني صياح طيور البط. كان زعيقاً متقاطعاً، أشبه بزعيق سيارات الإسعاف، يعلو بعضها ويخفت، لتعلو أصوات أخرى وتخفت. لم يكن زعيق خوفٍ من خطر داهم وإنما كان زعيق غضبٍ على وجه التحديد. غضب طيور هائجة لم أفهم سببه إلا حين توجّهت نحو مصدر الصوت، وتوقفت أمام المشهد.رأيت قفصاً معدنياً بحجم جهاز تلفزيون قديم، موضوعاً على الرصيف قرب محل لبيع الطيور في طريق سير المارّة، وقد حُشرت فيه أعداد من طيور البط تفوق استيعاب القفص بكثير، ما جعل بعض الطيور تتراكب مع بعضها الآخر، تراكباً عشوائياً، لا قدرة لأي طير منها على تحديد وضعيته.أول ما فكرت فيه هو أنه كيف صار لبائع الطيور أن يحشر هذا الكمّ في قفص يضيق بنصف عددها!؟ نظرت إلى صاحب المحل، كان يجلس على كرسيه تحت أشعة شمس الشتاء مستمتعاً بشرب كأس من الشاي، وساهياً ـ كما أظهرت ملامح وجهه ـ عن كل الزعيق المرتفع على مقربة منه!شدّني مشهد طيور البط المحشورة على هذا النحو، غير أن أكثر ما أثار انتباهي هو الصراع العنيف الجاري بينها: تعضّ بطة قدم بطة تدوس عليها، فترتد الثانية لتقع على بطة ثالثة كانت تفر من عضة طير يبدو عنيفاً، فيشتبك اثنان من الطيور، يحاول كلٌّ منهما الخروج من ثقل الطيور الرابضة فوقه، فيصطدم الطائران بقضبان الحديد، وينشغلان عن العراك فيما بينهما ليردَّ كلٌّ منهما على هجوم طيرين آخرين كانا يسعيان لاحتلال الحيّز الذي أُتيح للحظة عبر العراك!مثل مرجلٍ من الماء يغلي كان مشهد عراك الطيور وتنازعها فيما بينها. ما من طير ناجٍ أو في مأمن. الكل منخرط بالعراك، والعضّ، والدفع، واللطم، والبحث عن منجى من التزاحم والضيق، ترتفع أصواتها الغاضبة، ويشتدّ زعيقها الحادّ أملاً بالسيطرة، أو تعبيراً عن الألم، من دون أن يتسع القفص الحديدي بمقدار سنتمتر واحد، ومن دون أن ينقص الحجم الطبيعي لكل طير ولو لسنتمتر واحد!صاحب المحل/مالك البطّ لم يكن ينادي على بضاعته ـ على خلاف أصحاب المحلات الأخرى ـ ولا كان يدعو المارّة ويرغَّبهم بالشراء. صياح البط الغاضب كان يملأ الشارع ومسامع الناس، ويجذب الأنظار من دون دعوة تُطلق.وفيما كان بعض المارة يكتفون باختطاف نظرة وهم يعبرون حذو القفص والطيور، كان بعض آخر لا يعير انتباهاً ولا تبدر عنه التفاتة، فيما بعض ثالث يتوقف لهنيهات ناظراً إلى البط داخل القفص ومتحوقلاً بصوت ظاهر ثم ماضياً في طريقه، كما كان البعض يطيل الوقوف أكثر من البعض الآخر، بل وينخرط كل واقف مع الواقف قربه بالتعبير عن استيائه وامتعاضه جراء حشر هذا الكمِّ الكبير في ذلك القفص الضيق، فيضيف مَنْ يضيف: بأن صاحب المحل/ مالك البط لا رحمة في قلبه ولا شفقة، فيما يستشهد آخر بأحاديث تحرّم تعذيب الحيوان ثم يشوحون بأيديهم استنكاراً وهم يستأنفون المشي.القفص، من جهته، لم يتسع قيد أنملة، ظل رابضاً على الأرض وآسراً للفائض عن حجمه من الطيور، وهذه الأخيرة، بدورها، لم يكن متاحاً لها إلا أن تزعق بأعلى أصواتها، وتتدافع بأجسامها وأجنحتها، مبقية على مناقيرها مفتوحة وجاهزة لعضّ بعضها للبعض الآخر، أو لدفع العض عن نفسها بعضٍّ أشدّ منه، أو لإخراج زعيق الاستغاثة على مسامع مارّة يغض البعضُ منهم الطرف، ويلتفت بعضهم نصف التفاتة، ويتوقف البعض قليلاً.. غير أنهم ـ جميعهم ـ يمضون في النهاية نحو مشاغلهم وأعمالهم وحاجاتهم الخاصة!