سمعت كلمة «الفاجومي» في قريتي قبل رحيلي إلى القاهرة. وقبل ظهور أحمد فؤاد نجم بسنوات طويلة.كان أبي عند كلامه مع أمي في آخر الليل يصف بعض رجال قريتنا بأنه فاجومي. ورغم خوفي من أبي وتصوري أن توجيه سؤال له ربما أغضبه. إلا أنني في لحظة من لحظات «روقان البال» سألته: من هو الفاجومي؟، لاأزال أذكر أنه قال لي: الفاجومي، هو الذي يقول للأعور أنت أعور في أصل وشه وفي عينيه.أي أن الفاجومي، هو الرجل الشجاع الذي لا يناور ولا يداور ولا يلف ولا يدور، الذي يؤمن بأن الخط المستقيم هو أكثر مسافة بين أي نقطتين في هذه الدنيا، الفاجومي صريح وواضح ولا يعنيه نتائج ما يقوله. المهم أن يكون صادقا ومتسقا مع نفسه ولا يفكر إلا في قول الحقيقة، مهما كانت النتائج المترتبة على هذا.شاهدت أحمد فؤاد نجم للمرة الأولى سنة 1968 في منزل عبدالرحمن الخميسي، الكائن بشارع عدلي بالقاهرة، يومها كنا نرى حديقة جروبي عدلي من نوافذ البيت. وكنت مبهورا بأنني موجود في إحدى الشقق التي تطل على تلك المنطقة السحرية المسماة وسط البلد، والتي يسميها الباحثون القاهرة الخديوية أو القاهرة الأوروبية أو القاهرة التي تقاسمتها العمارة الإيطالية مع العمارة الفرنسية، وكل هذا يقال في مواجهة القاهرة الفاطمية أو القاهرة الإسلامية.يومها وجدت نفسي أمام ثلاثة، أشهرهم- في ذلك الوقت وبالنسبة لنا نحن النخبة فقط- كان أحمد فؤاد نجم، يليه في الشهرة الشيخ إمام، وآخرهم في طريق معرفتنا بهم كان فنانا تلقائيا اسمه محمد علي.الشيخ إمام بيده العود... يعزف ويغني، وأحمد فؤاد نجم بيده الرق. ومحمد علي الطبلة. وهما معا يشكلان الكورس الذي يردد ما يغنيه الشيخ إمام. والغناء كان لشعر يؤلفه أحمد فؤاد نجم ويلحنه الشيخ إمام، وكله يدور حول نكسة الخامس من يونيو سنة 1967.لا أحب أن أقلل من بطولتهم.. لكني عندما أنظر لتلك الأيام البعيدة الآن، أقول إنه لولا النكسة التي سماها نجم: الهزيمة ما خرجت هذه الظاهرة، وما عرفنا هذا الكيان الفني الفريد، لا أقصد أنهم شكلوا بطولة العجز، ولكنهم خرجوا من حفرة النكسة التي وقعنا فيها جميعا، وعندما يؤرخ لنجم وشعره سنكتشف أن القصيدة السياسية الوحيدة التي كتبها قبل الخامس من يونيو كان عنوانها: «التحالف».وكانت تدور حول السخرية من فكرة تحالف قوى الشعب العاملة. وهي الصيغة التي قام الشعب عليها الاتحاد الاشتراك العربي، التنظيم السياسي الوحيد الذي كان مسموحا له العمل في مصر في ذلك الوقت.لن أضيف جديدا... عندما أتوقف بسرعة أمام تناقض وتوافق حياتيهما، أحمد فؤاد نجم ينتمي لعائلة أرستقراطية، هكذا قال لنا. لكننا لم نصدقه. وأحمد فؤاد اسم مُرَكَّبْ... وكان المصريون الذين ولدوا في زمن الملك أحمد فؤاد. مثلما فعل المصريون بعد ذلك وتوسعوا في إطلاق اسم فاروق بعد ولاية الملك فاروق.نجم من عائلة كبيرة في الشرقية، لكن الدهر أدار لها ظهره ووجد أحمد نفسه في ملجأ للأيتام، وفي هذا الملجأ ادعى نجم لاحقا أنه تعرف على عبدالحليم حافظ الذي كان مودعا في نفس الملجأ.الشيخ إمام عيسى، ضرير فقد بصره صغيرا، مثلما جرى لطه حسين، دخل أيضا ملجأ للأيتام، وفي هذا الملجأ ختم القرآن الكريم وامتهن تلاوة القرآن في المياتم، وعلى المقابر وإحياء الليالي الدينية على طريقة «السييط»، وهو شخص يلبس «جبة وقفطان وعمامة»، ويقيم مثل هذه الليالي الدينية في بيوت الأغنياء.كان صوت الشيخ إمام أكثر من جميل، وكان يتذوق الكلمات قبل أن يغنيها، ويعيش معها قبل أن يوصلها للآخرين.. لذلك كان أكثر هذه المجموعة صدقا، وقد تعرفت إليه بشكل شخصي وفردي لاحقا، وبعد أن دبت الخلافات بينهم وفرقتهم الظروف والملابسات، لكني لا أحب الاستجابة لإغراء هذه الحكايات الجانبية استجابة لنصيحة قريتي لي قبل أن أتركها: «اذكروا محاسن موتاكم».ظاهرة الكيان الفني، نجم وإمام، تستحق التوقف والدراسة... ليس من باب إخضاع الأشعار والألحان والغناء لأي دراسة أكاديمية، ولكن من زاوية هذا الشيوع الجماهيري غير العادي، لقد تم في غياب التليفزيون، لم تكن الفضائيات موجودة. والإذاعة التي كانت سيدة الموقف في ذلك الوقت لم ترحب بهما ولم تقدم على موجاتها ألحانهما. حتى الأغنية التي أخذت شكل النشيد عن جيفارا بعد استشهاده. وكانت بعيدة تماما عن الشأن المصري، رفضت الإذاعة إذاعتها لسنوات طويلة.طبعا ظاهرة «إمام- نجم» سبقت كثيرا ما نراه من العالم الافتراضي والإنترنت.. وكل هذا التواصل الجماهيري، ومع هذا وعندما عدت لقريتي وجدت من يرددون أغاني نجم وإمام. علما بأن الوسيلة الوحيدة لهما كانت الغناء في بيوت الميسورين من المصريين. لقد ترددت وراءه في كثير من هذه المنازل. ودخلت قصورا في شارع الهرم، وفيللات في مصر الجديدة وشاليهات على النيل في القناطر الخيرية.وكل هؤلاء من مساتير الناس أو ربما أغنيائهم الذين كانوا يعتبرون من طقوس سهراتهم أن يغني الشيخ إمام أشعار أحمد فؤاد نجم، ومع هذا أصبحت هذه الظاهرة جزءا من وجدان الشعب المصري.كيف جرى هذا، وما هي الآلية التي تمت من خلالها؟، وهل استفادة من تجربة عبدالله النديم في القرن التاسع عشر؟، أم أن نكسة الخامس من يونيو، ثم الانفتاح الاقتصادي الذي أعقب حرب السادس من أكتوبر، وبعد ذلك المعاهدة مع العدو الإسرائيلي وفساد مصر مبارك وعزلة مصر العربية بعد كامب ديفيد.هل قدم كل هذا المادة الخام لأشعارهما وضمن التعاطف الشعبي والجماهيري غير العادي لهما؟.وقال لنا علماء اللغة.. إن العامية المصرية عند انتشارها في الوطن العربي تصطدم بالفصحى. والفصحى لغة مقدسة، فهي اللغة التي نزل بها القرآن الكريم. ومع هذا فقد اكتسح شعر نجم الوطن العربي. ما جعلني أتذكر مقولة أحمد شوقي أمير الشعراء: لا أخشى على الفصحى إلا من عامية بيرم. وكان يقصد محمود بيرم التونسي وشعره البسيط السهل الذي غزا حياة المصريين.عندما سافر نجم وإمام لتونس قرأنا عن الاستقبال الأسطوري لهما. وأن السلطات التونسية في ذلك الوقت بسبب زحام الجماهير غير العادي، قررت أن تقيم لهما الحفلة في استاد تونس الدولي. وقيل في بعض المبالغات إن الجماهير حملت سيارتهما من الفندق إلى الاستاد، وتمت المقارنات بين سيارة عبدالناصر التي حملها السودانيون في الخرطوم بعد الخامس من يونيو، ما دفع مجلة التايمز الأميركية، أن تنشر السيارة المحمولة على أعناق السودانيين، سيارة عبدالناصر، وتكتب تحتها: استقبال المهزوم المنتصر.لم تقتصر الرحلات على سورية أو العراق أو اليمن الجنوبي أو الكويت أو ليبيا. لكنهما وصلا إلى القارة الأوروبية، وأقاما حفلاً مهما في مسرح الأوليمبيا في باريس. وكان الشيخ إمام يحتفظ بتسجيل مرئي لهذا الحفل، رغم أنه لم يكن يرى. ويتحدث كثيرا عن استقبال الجمهور الفرنسي لهما، ولم أجرؤ أن أقول له إن جمهور مسرح الأوليمبيا في باريس ربما كان عربيا بالتمام والكمال، وعموما ربما كان كلامه صادقا لأن الموسيقى لا تحتاج لترجمة. والغناء أيضا لا يحتاج لمترجمين.كنت أنظر لهما وأتعجب... أحمد فؤاد نجم الأفندي يرتدي جلبابا أبيض في معظم الحالات، وقد حسدته على هذه الشجاعة... فعندما جئت من قريتي كنت قد تعودت أثناء وجودي فيها على ارتداء الجلباب، لكني خلعته خشية من نظرة أفندية القاهرة لي.لكن أحمد فؤاد نجم كانت لديه شجاعة أنه احتفظ بهذا الجلباب الذي أصبح علامة مميزة له وسط الناس، لدرجة أن أي تجمع للمثقفين كان خاطف البصر فيه هو نجم، لتميز لبسه، وقدرته على مسح فكرة الخجل من هذا الزي من عقله.أما الشيخ إمام، فقد كان يلبس البدلة الكاملة وربطة العنق والقميص الأبيض، وفي الشتاء يضع على رأسه قلنسوة جميلة، وكان ابن نكتة وابن بلد، إن جلست معه بعيدا عن الغناء وفي مكان ناءٍ عن أبوالنجوم تكتشف أنك أمام شيخ عصري يعيش حياته بشكل شديد العصرية. لكن فترة تجويد القرآن الكريم وحفظه وتلاوته تركت في أعماق هذا الحس باللغة العربية، رغم أنه كان يغني بالعامية المصرية.عندما اتصلت بي هيئة الإذاعة البريطانية لأتحدث عن نجم، راقت لي فكرة المقارنة بين رحيل الشيخ إمام سنة 1989 ورحيل نجم، والاختلاف الشديد في التعامل مع الحدثين، علما بأن الشيخ إمام لا يقل في هذا المشروع أهمية عن نجم على الإطلاق، بل ربما كانت له مزايا كثيرة لم نجدها عند نجم، لكن المذيع الذي كان يقدم الحلقة وهو كارم محمود... لم يحب أن أستطرد في مثل هذا الكلام.عندما مات الشيخ إمام... كتبت مقالا، كان عنوانه: «الشيخ إمام لماذا تعثر مشروعه». وقد أغضب هذا المقال أبوالنجوم كثيرا، وربما عدت إلى هذا الموضوع بعد ذلك.