كثيرة هي زيارات وجولات مسؤولين امميين ووفود ممثلي حكومات غربية وعربية لبعض مخيمات النازحين السوريين في منطقة البقاع (شرق لبنان) لمعاينة أوضاعهم وطرق عيشهم في ظروف انسانية قاهرة، قبل ان يغادروا ليبقى الآلاف ممن أنهكتهم «رحلة الهروب» امام «زخات» وعود لا تسمن ولا تغني من جوع.فبدل زيادة تقديمات مفوضية الامم المتحدة، ها هي تتقلص وتتراجع عما كانت عليه، لتقع عائلات بأكملها تحت مقصلة العوز والتسوّل او العودة الى بلادها الغارقة في «النار» مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر الموت المحتم.ومع اقتراب فصل الشتاء «تفيض» هموم نازحين هربوا من ازيز الرصاص و«هستيريا» الصواريخ التي لا تفرق بين طفل او امرأة أو شيخ. فهؤلاء أتوا من مختلف المناطق والمحافظات السورية، ليعيشوا تحت سقف خيم من الخيش لم تحمهم من حرارة الشمس الساطعة في الصيف، وهي تهدد مضاجعهم في الشتاء القارس، بثلوجه وأمطاره، وسط صعوبة كبيرة في توفير سبل التدفئة وتحمل تكلفتها المرتفعة.وللبقاع «حصة الاسد» من النازحين السوريين، ولا سيما في القرى ذات الغالبية السنية القريبة من الحدود الرسمية وغير الرسمية، حيث ينتشر فيها اكثر من عشرة مخيمات، اربعة منها تدار من بلديات وهيئات مدنية، والبقية اقيمت عشوائياً في مناطق مختلفة من البقاعين الغربي والاوسط، وسط إحصائيات غير رسمية تحدّد عدد النازحين المقيمين في المخيمات بنحو 12 الفاً من أصل 350 الفاً موزعين على جميع القرى البقاعية.البرْد ضاعف هموم التدفئة في الخيم العشوائية المزروعة، دون سابق اذن من اي سلطة، في بساتين عند الحدود اللبنانية - السورية والتي تغيب عنها ادنى مقومات الحياة، اضافة لانتفاء الرقابة المفترضة من الجهات المختصة.مشهدية الغبار في الصيف، تختلف عنها لدى هطول الامطار التي تحوّل الممرات وارضية الخيم مستنقعات من الوحول، ما يطرح سؤالاً عن أسباب الغياب الكامل للهيئات الانسانية والاغاثية، وعدم ترجمة المسؤولين اللبنانيين كلامهم عن تفاقم الازمة بخطوات تضعهم امام مسؤولية ادارة مثل هذه التجمعات لوقف وتفادي الفوضى حيث لا حسيب او رقيب على الداخلين والخارجين، وسط تقديرات بان غالبيتهم دخلوا خلسة بطريقة غير شرعية، بعدما منعتهم سلطة الامن العام اللبناني عند الحدود في نقطة المصنع من الدخول، فاتخذوا طرقاً التوائية ومسارب جبلية محاذية. علماً أن اسماء هؤلاء غير مدرجة في لوائح البلديات والجهات الرسمية ما يجعل السلطات اللبنانية امام ما يشبه «العمى» الامني وينذر من جهة اخرى بتحويل اي مخيم عشوائي الى «مربع» مستقلّ عن اي رعاية.روائح كريهة تنبثق من المسافات بين الخيم، حيث تتراكم مياه الغسيل والنفايات، الموزعة عشوائياً والتي حوّلها الاطفال العاباً لهم. حتى المراحيض، استُحدثت عند جذوع الشجر ولفت بقماشة تفضح اكثر مما تستر.لا يجد عدنان ابن الثمانية اعوام حذاءً يحمي قدميه به من اذية او من البرد. لم يذهب الى المدرسة لعجز ذويه عن تسديد اجرة نقله من المخيم الى مدرسة مجدل عنجر الاقرب.وكثر الاطفال أمثال عدنان في المخيم وغيره، ضاع عامهم الدراسي لعدم توافر امكانات النقل. وهذه حال المخيم العشوائي في بلدة الصويرة (البقاع الغربي) الذي اقيم قبل نحو اربعة اشهر في أحد بساتين التفاح عند الجهة الجنوبية من معبر المصنع والذي نادراً ما تجد أحداً من ابناء البلدة يعرف بوجوده، لتموضعه عند اطرافها، رغم انه لا يبعد سوى امتار عن المعبر الرسمي.أنشئ هذا المخيم مع بداية سياسة التضييق على الوافدين السوريين، وذلك بعدما تجمع نازحون في أحد البساتين إثر دخولهم سيراً على الاقدام، ليتفقوا مع صاحب البستان على دفع مبلغ 60 الف ليرة (نحو 40 دولاراً) اجرة شهرية عن كل مساحة خيمة... وسرعان ما ارتسمت معالم مخيم من 83 خيمة، يعيش داخلها نحو 120 عائلة، غالبيتهم من النساء والاطفال.ينهمك «ابو عزام» وابناؤه الثلاثة في تجهيز الخيمة تحسباً للشتاء، فيلفّونها بالنايلون ثم يضعون الخيش فوقها، وذلك للوقاية من تسرب الامطار والثلج، ولحصر الحرارة داخلها ويقول: «مو هو الحل، البرد ما بيرحم والمازوت نار بتكوي جيوبنا».«ام وليد» الاربعينية، تحكي كيف كانت رحلتها الى لبنان من منطقة الغوطة الشرقية قبل ثلاثة اشهر، هي واطفالها الاربعة (بنتان وصبيان) الذين لا يتجاوز كبيرهم الثالثة عشرة من عمره. تتأفف من ضياع العام الدراسي لأبنائها كونها لا تملك اوراقاً ثبوتية. واذ لا تنكر ان هذا السبب هو الذي جعلها تعبر واياهم بطريقة غير شرعية، تضيف شاكية من «حال الذل» التي فرضتها الاوضاع عليها وكيفية تأمينها بدل المازوت للتدفئة: «جينا من الموت والحصار، ما عاد لقينا أكل، وما في مخاتير» (ليصادق المختار على موافقة زوجها لمرافقة ابنائها خارج القطر).لا تختلف الاسر النازحة في المخيمات العشوائية، عن اسر المخيمات المنظمة، وإن كانت لكل اسرة حكاية. واذا كان ما يجمعهم هو معاناة التهجير القسري والهروب من الموت المنفلت من اي عقال انساني، فإن ما يفرقهم هو واقع العيش بين مخيمات عشوائية تعمها الفوضى الاجتماعية ومخيمات منظمة ومدارة من البلديات او جمعيات انسانية. ففي مخيم مجدل عنجر الذي لا يبعد عن المخيم «العشوائي» سوى كيلومترين، لا مكان لأكثر من 40 عائلة. وهنا كل شيء مختلف، فالارضية مرصوفة بما يمنع تشكل الوحول، والخيم منظمة ومتينة ومجهزة لعدم تسرب المياه اليها. وحتى اوقات الدخول والخروج منه واليه محددة، اضافة الى تأمين مستلزمات العيش من مواد غذائية وتدفئة، من دون اغفال انه تم تخصيص كل خيمتين بـ براد، وضع بينهما.الا ان هذا «النعيم»، قياساً الى ما هو عليه الحال في المخيمات العشوائية، لا يدوم طويلا باعتبار ان مخيم «المجدل» الكائن في منطقة «المسيل» في الجهة الشرقية الشمالية، انشئ كمخيم استقبال لفترة محدودة ريثما يؤمن النازح مسكناً بديلاً. فمع كل انذار تحمله البلدية الى النازحين بوجوب المغادرة، بعد تمديد اكثر من مرة، يجد النازحون انفسهم امام خوف ومن الآتي. وهذا هو حال «سعدى» وعائلتها التي تشتكي من عدم قدرتها على تأمين مسكن بالايجار، باعتبار ان زوجها مقعد نتيجة اصابة افقدته القدرة على السير، وتسأل: «وين نروح وكيف نسدّ اجرة البيت، زوجي مشلول ومو قادر يشتغل، يا ريت يتركونا بالمخيم ارحم النا من البهدلة».«حسين» الآتي من مخيم اليرموك ينتقد الدولة اللبنانية لعدم اقامتها المخيمات فتكون تحت اشرافها او اشراف الجمعيات والبلديات، ويقول: «سبب المشكلة ان النازح يريد السكن وبدلات الايجار مرتفعة، ما يضطره الى العمل وهذا يؤثر على اللبناني ويؤدي الى مشاكل اجتماعية واقتصادية، وامنية». ويعتبر ان «ان سياسة النأي بالنفس عن الملف الانساني للنازحين منذ بدايته حتى اللحظة ما هو الا سياسة ولاء للنظام علماً ان هذا ينعكس على اللبناني بالسوء، «ليكفر ويكره كل من يقول انا سوري»، متمنياً على السلطات اللبنانية تأمين مخيمات.الوضع في مخيم المرج لا يختلف عن «شقيقه» في مجدل عنجر، فهو مشاد بطريقة نظامية وتقنية. حتى أرضية الخيم صبت بالباطون لمنع تسرب المياه والبرد من الارض، كما هو الحال في مخيم تعلبايا الذي اقامه اتحاد جمعيات الاغاثة للنازحين السوريين، كأكبر مخيم في البقاع كونه يستوعب 80 عائلة، عدا عن انه شُيّد بطريقة وشروط تؤمن شيئاً من الطمأنينة لدى المقيمين فيه، حيث انه يدار من جمعية الابرار التابعة للجماعة الاسلامية.ورغم ذلك، لا يخفي النازحون المستقرون في هذين المخيمين قلقهم من الشتاء والبرد القارس، وتخوفهم من كلفة مادة المازوت، بعدما لوحظ غياب الجمعيات الاهلية والعربية والدولية، وتقلص خدمات مفوضية الامم المتحدة، وشطبها عدداً كبيراً من العائلات المستفيدة من تقديماتها. فبحسب «ساجدة» الآتية من داريا في ريف دمشق «المنكوب» فان حيرتها تأتي من شطبها هي وبناتها من سجل المستفيدين من «بونات» (قسائم) الغذاء التي تعتمد عليها كما على بونات المازوت في الشتاء، وقالت: «نحنا حريمات هذا ظلم، في ناس قادرة ومقتدرة لساتا مسجلة وهي في سورية، وين نروح... شو بدن نشتغل بالعاطل حتى نعيش؟ والله هذا كفر».لا يعرف «ابو علاء» كيف يمكنه تأمين مادة المازوت لتدفئة أطفاله فيما هو لا يعمل وذلك بعدما حرمته مفوضية الامم المتحدة من تقديماتها، وقال: «انا ما بشتغل ومو عارف ايش بدي سوي». فيما اشار خالد ابو شاهين المسؤول عن مخيم تعلبايا والمكلف من جمعية «الابرار الخيرية» الى ان المخيم مؤلف من 80 خيمة «نؤمن لقاطنيها كافة مسلزمات العيش»، مضيفاً: «هناك قوانين في المخيم، والدخول اليه والخروج منه بعد العشاء ممنوع ما لم يكن الامر للضرورة القصوى».وأوضح ابو شاهين ان اتحاد الجمعيات انشأ مسجداً ومدرسة خاصة بالمخيم، مؤكداً ضرورة استحداث المخيمات كونها تخفف من ازمة انتشار اللاجئين داخل القرى والمدن اللبنانية، عدا عن تخفيف العبء عن الجهات المساعِدة، واضاف: «اي مساعدة تأتي تُوزع على النازحين بالتساوي دون اي عناء للحصول عليها».بدوره لفت رئيس بلدية مجدل عنجر سامي العجمي الى ان ادارة مخيم النازحين في بلدته ليس بالامر السهل، وقال «هو ثمرة تعاون مع جمعيات اهلية ومدنية أمنا من خلالها المساعدات»، لافتاً الى «ان هذه الملفات تحتاج الى حكمة التنظيم، تفادياً لجملة مشاكل اقتصادية وامنية واجتماعية»، واضاف: «نحدد للنازحين اوقات الدخول والخروج الى المخيم، ما يمنع المخالفات، لا سيما وان بلدتنا تجاوز فيها عدد النازحين 15 الفاً».واشار العجمي الى ان المخيم في مجدل عنجر «ليس سوى مخيم استقبال موقت نستقبل فيه النازح الذي ليس لديه مكان خصوصاً اذا كانت عائلة مؤلفة من اطفال ونساء، وذلك ريثما يؤمنون مسكناً كي نستقبل غيرهم».