| إعداد عماد المرزوقي |
تعود اول رحلاتهم بقيادة «النوخذة» او الربان المحنك الى عام 1932. بحارة كويتيون قطعوا الأميال على سفينة شراعية وبقوا في عمق البحر لأشهر عدة، وأتت عليهم الأعياد وهم في عرض البحر، صبروا وكافحوا ملتئمين في شكل عائلة واحدة، قد يكون احدهم تعرض الى الموت، وتعطلت سفينتهم الشراعية «البوم» احيانا وهم يصبحون ويمسون على سوالف كويتية، ويتشاجرون ولا يتفرقون، فسفينة واحدة جمعتهم، هذه خلاصة احدى رحلات نواخذة الكويت في بدايات القرن العشرين تم العثور على يومياته التي خطها منذ أكثر من 50 عاما وصدرت في كتاب حمل عنوان «روزنامة» للكاتب الدكتور يعقوب يوسف الحجي.
التراث البحري الكويتي له حكايات طويلة مع بطولة رجال كانوا لايكلّون ولايملّون من الترحال واكتشاف وجهات تجارية جديدة منحت للكوتييين خبرات ضاربة في العمق عن ثقافات أخرى، ولعل ابرز ابطال الرحلات العربية على شاكلة ابن بطوطة برز اسم عبد الوهاب العسعوسي، النوخذة الكويتي الذي خلد ترحاله لمدة عشرين عاما متواصلة في البحار حكايات يتداولها الكبار والصغار. رحلات النوخذة العسعوسي كشفت ملامح واضحة عن الشخصية الكويتية الأصيلة الصبورة التي تتحمل الصعاب لأجل العودة بـ«الـزود» الوفير مقابل بيع سلع مثل التمر واللؤلؤ والسمك في زمن لم يظهر فيه النفط بعد. وقد تتبع الكاتب الحجي يوميات النوخذة العسعوسي وابرز وأهم تنقلاته وكيفية تعايش البحارة الكويتيين على سفينة واحدة. ووصف كيف كان الترحال يضطر البحارة احيانا الى الاحتفال بالأعياد على ظهر السفن وكان هناك مشهد من التآلف والتكاتف بين بحارة تجمعوا حول نوخذتهم العسعوسي.
الكتاب الذي يروي يوميات العسعوسي حمل مصطلحات كويتية بحرية قديمة قد لا يتم تداولها اليوم. وتطرق الحجي الى صولات وجولات البحارة ومغامراتهم مع امواج البحار العاتية وعلى سبيل المثال اعتراض غواصة المانية لطريقهم في بداية الحرب العالمية الثانية. «الروزنامة كتبت قبل اكثر من خمسين عاما بالقلم الرصاص وكانت مستحيلة القراءة»، يروي الحجي ولكن بعد صدور هذا الكتاب تم الكشف عن بعض طلاسم مخطوط تركه العسعوسي. فلم يكن خارطة كنز بحري ولكنه ارث حضاري كويتي يؤصل لما قد تفتقده الكويت اليوم من نماذج مشرقة في الماضي عن تلاحم الكويتيين ببعضهم وصبرهم وتحملهم العناء لأجل بناء وطن. الكتاب ظهر بمستوى الدليل البحري بما قدمه من مصطلحات بحرية واماكن وموانئ رست فيها سفينة الربان العسعوسي في مناطق آسيا. وتبين من التراث العربي ان الملاحين العرب كانوا يسجلون ملحوظاتهم ومشاهداتهم في دفاتر وكتب يرجعون اليها عند الحاجة سميت «بالروزنامة».
الكاتب يعقوب يوسف الحجي اعد هذا الكتاب بعد بحث طويل عن روزنامات النواخذة الكويتيين، وخاف ان تكون مثل هذه اليوميات أتلفت او أحرقت غالبيتها ايام الغزو العراقي على حد علمه الا انه لم ييأس قائلا «كان هناك احساس بداخلي جعلني اكثر تفاؤلا بأن هناك روزنامة لأحد نواخذة الكويت ما زالت محفوظة».
ووصف الكاتب يوميات النوخذة أو الربان او «الكابتن» العسعوسي بالمفهوم العادي انها «سجل تاريخي رائد لرحلات قام بها هؤلاء النواخذة الشباب في زمن لم تتوافر لهم فيه المدارس والمعاهد الملاحية». وأضاف الكاتب ان رحلات النواخذة الكويتيين مثل الربان العسعوسي كانت بمثابة «صورة صادقة لكل ما تواجهه السفينة منذ خروجها من بندر الكويت وحتى عودتها اليه بعد ستة او تسعة اشهر متصلة...وتضمنت هذه الروزنامة البضاعة التي نقلتها السفينة والصعوبات التي تعرضت لها مثل موت بحار او حدوث عطب في السفينة او عواصف تعرضت لها». «ولا تتوقف اهمية الروزنامة عند هذا الحد بل انها مرجع مهم يرجع اليه القاضي او صاحب الرأي (راعي السالفة) اذا ما حدث خصام بين النوخذة وبحارته على سطح السفينة»، يشرح الكاتب.
ويصاحب الروزنامة البحرية دفتر للقياسات التي يجريها النوخذة منذ ان تترك السفينة احد الموانئ الهندية حتى تصل الى اليابسة على الساحل الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة العربية عبر بحر العرب.
ولا بد لكل نوخذة «معلم» اي ربان محنك حسب قراءة الكاتب ان «يكون قد تدرب على قراءة البوصلة البحرية ومعرفة نجومها : نجوم المطلع والمغيب».
بدأت رحلة النوخذة العسعوسي من الكويت حيث أبحر مع بحارته في سفينته الى شط العرب، وقد شحن السفينة بالتمر وباع حمولته في الهند بولاية كوجرات. ثم ابحر الى ميناء كليكوت وشحن حمولة من الخشب وحزم العودة الى الكويت. «أثناء العودة اعترضت بحارة العسعوسي عاصفة اضطرتهم الى اللجوء الى احد الموانئ للاحتماء منها، وقد مرت رحلة العسعوسي خالية من الأخطار وقد مر على النوخذة العسوسي وبحارته عيد الفطر وعيد الاضحى وهم في البحر، فلم يكن لديهم سوى الاحتفال بالعيد على سطح السفينة» يروي الكاتب.
وذكر الكاتب كيف ابحر الربان العسعوسي في سفرته الثانية بسفينته الى الهند يبيع تمرا وسلعا اخرى ويشتري فحما وخشبا ثم يعود بها الى الكويت واستغرقت رحلته 191 يوما. في سفرته الرابعة عام 1939 دوّن النوخذة العسعوسي انه في هذه الرحلة المتجهة الى ساحل عمان محملا تمرا لبيعه اضطره هواء بارد الى القاء 80 «قلة» تمر في البحر لكي يخفف على السفينة، وفي طريق عودته شاهد غواصة المانية وبارجة حربية انكليزية، وكان ذلك بداية الحرب العالمية الثانية.
في سفرته الخامسة، بدأ الترحال في عام 1941 وقد كانت ايضا لساحل عمان وباع حمولة من التمر مقابل زيت السمك (الصل) وليمون مجفف واخشاب. وذكر الكاتب ان آخر رحلات النوخذة العسعوسي كانت في عام 1952 وكان الاتجاه الأخير لرحلاته هي الهند.