أجل... بالأمس كنا ملوكاً، وكنا كالموج الهادر نجرف التراب والرمال والحصى والصخر جيئة وذهابا، وكنا نستنشق الأتربة والهواء الحار ونستظل بالصخر والجمال والخيل. كانت حياتنا شقاءً، وعانينا من الصحراء ما لم تعانيه الأمم من جبالها وسهولها، تارة نغزو، وتارة نقتل ونسفك الدماء دفاعاً عن أنفسنا، وتارة أخرى نعيش مطاردين شهوراً وأعواماً. وكم من نفس بشرية أزهقت في رمال هذه الصحراء. وكم من أرملة تكبدت شقاء تربية أبنائها الذين فقدوا آباءهم بسبب تلك الغزوات، حتى جاءت الدولة الحديثة ووضعت أسس السلام والتعايش في ما بيننا، وتحوّلت تلك الغزوات والحروب والعداوة والبغضاء إلى زيارات ومناسبات اجتماعية ومصاهرات وصلة دم، وأصبحنا في ظل هذا السلام ملوكا في أوطاننا.أجل... بالأمس كنا ملوك الصحراء، وبلغ من عنفواننا وكبرياؤنا وعظمتنا وسطوتنا ان من لم يقم بالانضمام إلى جحافلنا وجيوشنا الغازية، أو لم يساهم بمال أو بولد يشارك في غزواتنا، فهو وضيع ومنبوذ وفي مرتبة لا يمكن له أن يختلط أو يشارك بالمناسبات الاجتماعية بين أفراد القبيلة، ولا يمكن له مطلقاً أن يتجرأ ويصاهر هؤلاء الملوك الغزاة، حتى لو كان أكثر صلاحاً وإيماناً وتديناً منا، حتى أتت الدولة الحديثة ووضعت أسساً للمساواة. فلا فرق بين ملك غاز ووضيع منبوذ، ولا فرق بين من كان آباؤه يشقون الصحراء بسيوفهم، ومن كان أسلافه يرفضون المشاركة بالغزو والقتل، فالرؤوس والأعناق تساوت أمام القانون، وأصبحنا كلنا متساوين في أوطاننا.أجل... بالأمس كنا ملوكاً نصبر على الجوع وعلى العطش وعلى المرض وعلى شدة الحر وعلى شدة الترحال، حتى قامت الدولة الحديثة، ونعمنا بقيامتها بالماء الزلال وبأشهى الأطعمة، ونعمنا ببرودة المنازل وباستقرار الأماكن، وأصبحنا ملوكاً في أوطاننا، تصنع لنا كل صنعة تخفف علينا الشقاء والتعب.أجل... بالأمس كنا ملوكاً، وكانت بناتنا كالجواهر المصونة، لا تخرج للملأ ولا يراهن القاصي ولا الداني، وكنا نضرب خماراً حولهن كي لا يقعن في مرمى نواظر الآخرين، حتى كانت الدولة الحديثة، وخرجت تلك الجواهر إلى المدارس والمعاهد والجامعات، يساهمن في بناء المجتمع والوطن، وأصبحنا ملوكاً في الحاضرة نفخر بنسائنا وأخواتنا وزوجاتنا وهن يتبوأن مناصب لم يدر بخلدنا يوماً أن يصلن إليها.أجل... بالأمس كنا ملوكاً، وكنا نرى ونسمع فقط كلمة «نحن»، ونرفض كل الرفض أن نعترف أو نتقبل كلمة «الآخرين»، حتى جاءت الدولة الحديثة، وألغت من قاموس ودستور الدولة مفردة «نحن» واستبدلتها بكلمة «الكل». وعشنا كلنا في ظل هذه الكلمة ملوكاً في أوطاننا. والآن، لماذا يصر البعض على الانتخابات الفرعية ويلغون الآخر ويريدون أن يكونوا فقط هم الملوك والباقي منبوذون؟ إن علينا جميعاً أن نعترف بالآخر، حتى نظل فعلاً ملوكاً في الماضي وملوكاً في الحاضر.

طارق آل شيخان

رئيس مجلس العلاقات الخليجية الدولية (كوغر)admin@cogir.org