في هذا الزمن ان كنت صادقاً أو ناصحاً أو شهماً أو صاحب ضميرٍ حي أو أنك تحارب الفساد ولا ترضى الباطل وتمقت الاستعباد وتقف في وجه الظلم، فانك ستكون في عيون الكثيرين مشبوهاً خطيراً! وسيهرب عنك كل من كان في يوم من الأيام يقف يتحدث معك، وكأنك تاجر ممنوعات! وسيتبرأ منك كل من كان يجالسك وكأنك عميل للموساد الاسرائيلي، وسيرتجف جسد كل من تمر بجانبه وكأنك أسدٌ جائع، والذي تدخل عليه فجأة في مكانٍ ما سيتحوّل فمهُ الى زاويةٍ منفرجة، وعيناه شاخصتان، وكأنك سفاح مشهور جاءه يحمل في يديه ساطوراً وسكيناً يقطران دماً!كم هو احساسٌ مؤلم أن ينتابك شعور الوحدة وأنت محاط بعشرات الوجوه! وكم هو مؤلم أن تشعر بالنبذ وعشرات الأيدي تربتُ على كتفك! وكم هو مؤلم أن تشعر بالاقصاء وأنت تعمل وتتحرك بين عشرات الأرواح حولك! وكم هو مؤلم أن تشعر بأنك غير مرغوب فيك وعشرات الشفاه من حولك تبتسم في وجهك! وكم هو مؤلم أن تجد كل كلمةٍ قلتها قد زِيد عليها مليون كلمة من أجل تشويه سمعتك! وهذا كله من أجل أنك لم تقاسمهم رغيف الذل وتحتسي معهم كأس العبودية، ومن أجل أن روحك لم ترض أن تشابه أرواحهم التي أدمنت على رعشة الخوف وأصفاد الرق.في هذا الزمن الذي انقلبت فيه مفاهيم كثيرة رأساً على عقب، اياك أن تتعجب من أي شيءٍ يثير العجب! فالحرامي أصبح ضابط شرطة، والغبي أصبح مُفكراً مشهوراً في القنوات الفضائية، والفاشل أصبح دكتوراً جامعياً، والتافه أصبح أديباً، والفاسد أصبح مسؤولاً وصاحب قرار، والمطربون والمطربات أصبحوا نجوماً وقُدوات، والأطباء أصبحوا جزارين، والتجار أصبحوا لصوصاً يمصون دم الفقراء، والسجون ضاقت بالأبرياء، وكلام الله هناك من يتاجرون به بكل جشع!لا أعرف لماذا كل ما أمسكتُ القلم بيدي أخذ يرتجف كل شيءٍ حولي! زملائي الموظفون والكراسي والطاولات والسقف والجدران وقهوتي وكُتبي وممرُ القِسم وعامل النظافة والدرب الذي يوصلني لسيارتي! هل أنا عندما أُخرجُ القلم من جيبي أكون أخرجتُ قنبلةً عنقودية! وهل عندما أرفع الغطاء عن رأس قلمي لكي أكتب أكون كالذي استل سيفاً من غِمدِه؟ يا الله، لم أعلم من قبل أن القلم الذي يسيل بمداد الحق قد يصنع من صاحبه مشبوهاً خطيراً بأعين الكثيرين في مجتمعٍ انقلبت فيه مفاهيم كثيرة رأساً على عقب!
حسين الراوي