تعتبر قصة نبي الله يوسف عليه السلام من احسن القصص القرآني، ولكثرة ما فيها من عبر ودروس وعظات فقد استنبط الامام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - منها مئة فائدة جمعها الاستاذ الدكتور وليد بن محمد بن عبدالله العلي استاذ العقيدة في كلية الشريعة والدراسات الاسلامية جامعة الكويت في كتاب اسماه «الروض الانيق في الفوائد المستنبطة من قصة يوسف الصديق».
وقد قسمه إلى اجزاء يشتمل كل جزء على فائدة او اكثر وسنقوم بعرضها تباعا طوال شهر رمضان المبارك ليستفيد بها اكبر قدر من القراء الاعزاء.


الجزء الخامس

الفائدة الثانية عشرة
الفوائد المستنبطة من قول الله تعالى: (قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من اهلها ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلما رأى قميصه قد من دبر قال انه من كيدكن ان كيدكن عظيم. يوسف اعرض عن هذا واستغفري لذنبك انك كنت من الخاطئين) الآيات 26-28
- ان الخبرة شهادة وكل مخبر شاهد قال تعالى (وشهد شاهد من أهلها) ثم ذكر شهادته فقال: (ان كان قميصه قد من قبل) بدائع الفوائد 4/44
(شاهد من اهلها) قد قال قوم: حكيم من اهلها وقال قوم: القميص الشاهد وقال قوم الصبر (بدائع الفوائد 3/100)
- العالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه (إعلام الموقعين 1/88)
- من له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالها وعدلها وسعتها ومصلحتها وان الخلق لا صلاح لهم من دونها البتة: علم ان السياسة العادلة جزء من اجزائها، وفرع من فروعها، وان من احاط علما بمقاصدها ووضعها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة. فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر وهي من الشريعة علمها من علمها وخفيت على من خفيت عنه ولا تنس في هذا الموضع: قول سليمان نبي الله للمرأتين اللتين ادعتا الولد، فحكم به داود للكبرى فقال سليمان: ائتوني بالسكين اشقه بينهما، فقالت للصغرى: لا تفعل هو ابنها، فقضي به للصغرى، لما دل عليه امتناعها من رحمة الأم، ودل رضى الكبرى بذلك على الاسترواح إلى التأسي بمساواتها في فقد الولد.
وكذلك قول الشاهد من اهل امرأة العزيز: ( ان كان قميصه قد من قبل) (وان كان قميصه قد من دبر) بدائع الفوائد 3/105
- توصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب، وهذا لوث في احد المتنازعين يبين به اولاهما بالحق. وقد ذكر الله سبحانه اللوث في دعوى المال في قصة شهادة اهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر، وامر بالحكم بموجبه، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بموجب اللوث في القسامة، وجوز للمدعين ان يحلفوا خمسين يمينا ويستحقون دم القتيل، فهذا لوث في الدماء، والذي في سورة المائدة لوث في الاموال، والذي في سورة يوسف لوث في الدعوى في العرض ونحوه (الطرق الحكمية ص5).
- ما حكاه الله سبحانه في قصة يوسف من استدلال الشاهد بقرينة قد القميص من دبر على صدقه وكذب المرأة، وانه كان هاربا موليا فأدركته المرأة من ورائه فجبذته فقدت قميصه من دبر، فعلم بعلها والحاضرون صدقه وقبلوا هذا الحكم، وجعلوا الذنب ذنبها، وامروها بالتوبة، وحكاه الله سبحانه وتعالى حكاية مقرر له غير منكر. والتأسي بذلك وأمثاله: في اقرار الله له وعدم انكاره لا في مجرد حكايته، فإنه اذا اخبر به مقرا عليه ومثنيا على فاعله ومادحا له: دل على رضاه به، وانه موافق لحكمه ومرضاته. فليتدبر هذا الموضع، فإنه نافع جدا، ولو تتبعنا ما في القرآن والسنة وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه من ذلك: لطال، وعسى ان نفرد فيه مصنفا شافيا ان شاء الله تعالى (زاد المعاد 3/149 - 150).
- جملة الشرط والجزاء تارة تكون تعليقا محضا غير متضمن جوابا لسائل: هل كان كذا؟ ولا يتضمن لنفي قول من قال: قد كان كذا، فهذا يقتضي الاستقبال. وتارة يكون مقصوده ومضمنه جواب سائل: هل وقع كذا؟ او رد قوله: قد وقع كذا، فإذا علق الجواب هنا على شرط: لم يلزم ان يكون مستقبلا لا لفظا ولا معنى، بل لايصح فيه الاستقبال بحال، كمن يقول لرجل: هل اعتقت عبدك؟ فيقول: ان كنت قد اعتقته فقد اعتقه الله. فما للاستقبال هنا معنى قط.
وكذلك اذا قلته لمن قال: صحبت فلانا؟
فيقول: ان كنت صحبته فقد اصبت بصحبته خيرا، وكذلك اذا قلت له: هل اذنبت؟ فيقول: ان كنت قد اذنبت فإني قد تبت إلى الله واستغفرته.
وكذلك اذا قال: هل قلت لفلان كذا؟ وهو يعلم انه علم بقوله له: فيقول: ان قلته فقد علمت، فقد عرفت ان هذه المواضع كلها مواضع ماض لفظا ومعنى ليطابق السؤال الجواب، ويصح التعليق الخبري لا الوعدي، فالتعليق الوعدي يستلزم الاستقبال واما التعليق الخبري فلا يستلزمه.
ومن هذا الباب: قوله تعالى: (ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين).
وتقول: ان كانت البينة شهدت بكذا وكذا: فقد صدقت. وهذه دقيقة خلت منها كتب النحاة والفضلاء، وهي كما ترى وضوحا وبرهانا، ولله الحمد. بدائع الفوائد 1/43.
- اما الماضي: فيصرف إلى الاستقبال بعد ادوات الشرط وفي الوعد والانشاء ونحوه لا في الخبر كقوله تعالى (ان كان قميصه قد من قبل فصدقت) (وان كان قميصه قد من دبر فكذبت) بدائع الفوائد 4/158.
- كل عاجز جبان: سلطانه في مكره وخداعه وبهته وكذبه، ولذلك ان النساء بيت المكر والخداع والكذب والخيانة، كما قال الله تعالى عن شاهد يوسف عليه السلام انه قال: (انه من كيدكن ان كيدكن عظيم) اغاثة اللهفان 2/460 - 461.