هو عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما... عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم واهتدى بهديه، وقضى عمره الطويل المبارك على هذا الولاء الوثيق، حتى جاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول: «اللهم ابق عبدالله بن عمر ما أبقيتني» كي أقتدي به، فاني لا اعلم احدا على هذا الامر غيره»، كان رضي الله عنه يتهيب الحديث عن رسول الله، ولا يروي عنه صلى الله عليه وسلم حديثا الا كان ذاكرا كل حروفه، حرفا... حرفا، كذلك كان شديد الحذر والتحوط في الفتيا، كان يخاف ان يجتهد في فتياه، فيخطئ في اجتهاده، وعلى الرغم من انه يحيا وفق تعاليم دين عظيم، يجعل للمخطئ اجرا، وللمصيب اجرين، فان روعه كان يسلبه الجسارة على الفتيا، كذلك كان ينأى عن وظيفة القضاء، رغم انها من ارفع مناصب الدولة والمجتمع، لكن ما حاجة ابن عمر الورع الاواب للجاه والمجد؟!
/>لقد تعلم عن ابيه «عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، خيرا كثيرا... وتعلم مع ابيه عن رسول الله امرا يبهر الالباب، فمثلا عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في مكان... فيصلي ابن عمر في المكان ذاته... واذا رآه يدعو قائما... فيدعو ابن عمر قائما... وهكذا... ومزايا عبدالله بن عمر كثيرة، فعلمه، وتواضعه، واستقامة ضميره، وجوده، وورعه، ومثابرته على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة، كل هذه الصفات، صاغ ابن عمر منها شخصيته الفذة، وحياته الطاهرة الصادقة، بل انه ليذكر ان ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم دارت به دورتين في مكان ما بمكة قبل ان ينزل من فوق ظهرها، ليصلي ركعتين، حتى يفعل ابن عمر ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفيا... ولقد اثار فرط اتباعه هذا ام المؤمنين «عائشة» رضي الله عنها وعن ابيها، فقال: «ما كان احد يتبع اثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله، كما كان يتبعه ابن عمر».
/>دعاه يوما الخليفة «عثمان» رضي الله عنه وطلب اليه ان يشغل منصب القضاء، فاعتذر، والح عليه عثمان، فاصر على اعتذاره... وسأله عثمان: اتعصيني؟ فاجاب ابن عمر: «كلا، ولكن بلغني ان القضاة ثلاثة، قاض يقضي بجهل، فهو في النار... وقاض يقضي بهوى، فهو في النار... وقاض يجهتد ويصيب، فهو كفاف، ولا وزر ولا أجر، واني لسائلك بالله ان تعفيني»، واعفاه عثمان بعد ان اخذ عليه العهد بالا يخبر بهذا أحداً!
/>كان عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، من ذوي الدخول الرغيدة، اذ كان تاجرا امينا ناجحا في حياته، وكان راتبه من بيت المال وفيرا، ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط، انما كان يرسله غدقا على الفقراء والمساكين والسائلين. يحدثنا «أيوب بن وائل الراسبي»، فيخبرنا ان ابن عمر جائه يوما اربعة آلاف درهم، وقطيفة... وفي اليوم التالي رآه «ايوب بن وائل» في السوق يشتري لراحلته علفا بالدين، فذهب «ابن وائل» إلى اهل بيته وسألهم: اليس قد اتى لابي عبدالرحمن- يعني ابن عمر- بالامس اربعة الاف وقطيفة؟ قالوا: بلى.. قال: فاني رأيته اليوم بالسوق يشتري علفا لراحلته ولا يجد معه ثمنه... قالوا: انه لم يبت بالامس حتى فرقها جميعها، ثم اخذ القطيفة والقاها على ظهره وخرج، ثم عاد وليست معه، فقال: انه وهبها لفقير!!
/>خرج «ابن وائل» يضرب كفا بكف، حتى اتى السوق، فصعد مكانا عاليا، وصاح في الناس: «يا معشر التجار... ما تصنعون بالدنيا، هذا ابن عمر تأتيه آلاف الدراهم فيوزعها، ثم يصبح فيستدين علفا لراحلته»؟! الا من كان «محمد» استاذه «عمر» أباه، لعظيم، وكفء لكل عظيم...!! ولقد كانت الاموال تأتيه وافرة كثيرة... ولكنها تمر به مرورا وتعبر داره عبورا... ولم يكن رضي الله عنه يأكل الطعام وحده، فلا بد ان يكون معه ايتام او فقراء، وطالما كان يعاتب بعض ابنائه حين يولمون للأغنياء، ويقول لهم: «تدعون الشباع، وتدعون الجياع»، لقد كان المال بين يديه خادما لا سيدا...
/>تحدث وهو على قمة عمره الطويل فقال: «لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نكثت وما بدلت إلى يومي هذا... وما بايعت فتنة... ولا أيقظت مؤمنا من مرقده»... هذه الكلمات تلخيص وثيق لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين، والذي بدأ علاقته بالاسلام وبالرسول وهو في الثالثة عشرة من عمره، حيث صحب اباه إلى غزوة بدر، راجيا ان يكون له بين المجاهدين مكان، لولا ان رده الرسول صلى الله عليه وسلم لصغر سنه.
/>اهداه يوما صديق وعاء، فسأله ابن عمر: ما هذا؟ قال: هذا دواء عظيم جئتك به من العراق... قال ابن عمر: وماذا يطيب هذا الدواء؟ قال يهضم الطعام... فابتسم ابن عمر وقال لصاحبه: «يهضم الطعام»؟؟ اني لم اشبع من طعام قط منذ اربعين عاما»!!.
/>سلام عليك يا ابا عبدالرحمن، سلام عليك يا ابن عمر يا من كنت تدرك انك في الدنيا عابر سبيل، سلام عليك يا من التزم لمنهجه في الصدق والورع... سلام عليك يا من كنت توصل الليل بالنهار مصليا قارئا لقرآن الله، لقد كنت كالطود الشامخ، الذي لا يبرح نهجه ولا يتخلى عن ورعه وزهده.
/>