القرآن الكريم كتاب هداية للبشر فيه من الاشارات والدلالات ما يبرهن على صدق الرسالة المحمدية، وهو خاتم الكتب السماوية، لذا فمن حكمة الله عز وجل انه تكفل بحفظه «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون».والقرآن الكريم هو الاعجاز الحقيقي لهذه البشرية حيث اكتمل رشدها بخاتم الانبياء محمد (صلى الله عليه وسلم)، هو «ذلك الكتاب لا ريب فيه* هدى للمتقين»، «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه»، «لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها».فلقد نزل القرآن في قوم هم رواد اللغة وفرسان البيان، فتحداهم الله بالاتيان بمثله فاعجزهم ذلك، وقد كان التحدي في البداية أن يأتوا بقرآن مثله فعجزوا، فكان التحدي العظيم أن يأتوا بعشر سور من مثله، فبهتوا، ثم كان التحدي الأعظم ان يأتوا بسورة من مثله، فخابوا وخسروا. وتتعدد مظاهر الاعجاز في القرآن الكريم، ما بين اعجاز بياني وآخر علمي واعجاز تشريعي... الخ، وهذا الاخير هو ما يعنينا في هذا المقام.ومن صور الاعجاز في كتاب الله تعالى ما تسرده لنا سورة يوسف في كيفية إدارة الأزمات الاقتصادية، إدارة رشيدة تكفل حفظ الموارد وتحقيق الغايات المتوخاة منها.وذلك بما اوحى الله لنبيه يوسف عليه السلام وما افاض عليه من علم وحكمة حين سئل عن تأويل ما رآه ملك مصر في منامه انذاك حيث يقول تعالى «وقال الملك اني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون».وذلك ان الملك رأى في نومه كأنما خرج من نهر يابس سبع  بقرات سمان في أثرهن سبع عجاف- اي مهازيل- وقد اقبلت العجاف على السمان فأخذن بآذانهن فأكلنهن إلا القرنين، ورأى سبع سنبلات خضر قد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى اتين عليهن فلم يبق منهن شيء وهن يابسات، وكذلك البقر كن عجافا فلم يزد فينهن شيء من اكلهن السمان فهالته الرؤيا فارسل إلى الناس وأهل العلم منهم والبصر بالكهانة والنجامة والعرافة والسحر وأشرف قومه فقص عليهم، فقال القوم «أضغاث أحلام».فأخبرهم يوسف عليه السلام بقوله كما نص القرآن الكريم «قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون». أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليا «فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون»، اي مهما استغللتم هذه السنوات السبع السنين الخصب فادخروه في سنبله ليكون ابقى وأبعد عن إسراع الفساد اليه الا المقدار الذي تأكلونه وليكن قليلا قليلا لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد وهن السبع السنين المحل التي تعقب هذه السبع.والمتأمل في هذه الآية الكريمة يجد انها تشتمل على عدد من التوجيهات الاقتصادية والارشادات باشارات وجيزة بليغة تعكس ما للقرآن من اعجاز في مجال التشريع الاقتصادي فالآية الكريمة تنطوي على ثلاثة توجيهات اقتصادية رئيسية بمثابة سياسات لادارة الازمة الاقتصادية المتوقعة كما تصلح كأسس لاقتصاد قوي وهي:

سياسية التحفيز الانتاجي:ويشار اليها بقوله تعالى «قال تزرعون سبع سنين دأبا» ولفظ تزرعون  هنا خبر في معنى الأمر ولفظ دأبا مصدر دأب على الشيء اذ استمر عليه ولازمه.فهي حث على العمل صوب هدف معين، مرتبط بعامل زمني محدد المدة، انطلاقا من دوافع قوية، مؤهلة لتقبل الجهد المبذول في المستقبل بغير مضض، بل بحماس زائد يعكس أهميته ويؤدي في النهاية إلى زيادة انتاجية كمية كانت ام نوعية.ومما لا شك فيه ان هناك ارتباطا قويا بين دوافع الفرد واشباع رغباته  او حاجته، فالدوافع تدفعه  إلى سلوك او تصرف معين. ويقوم الفرد بالتعبير عن سلوكه بنشاط معين او اداء عمل معين ثم يؤدي إلى اشباع حاجته او رغباته او اهدافه».وتتمثل الحوافز بصفة عامة في الاساليب التي يعتمد عليها للتأثير في سلوك الافراد او الجماعات على السواء غاية الامر ان اساليب التحفيز تتنوع «فقد تكون الحوافز ايجابية او يطلق عليها احيانا حوافز تخفيض القلق وتهدف إلى رفع الكفاءة الانتاجية وتحسين الاداء من خلال مدخل التشجيع والاثابة الذي يشجع الفرد على ان يسلك سلوكاً معينا، كما قد تكون حوافز سلبية وهي التي يطلق عليها حوافز التهديد، والتي تسعى إلى التأثير في سلوك الفرد من خلال مدخل العقاب والردع والتخويف».والآية تشتمل على كلا النوعين فهي تتبع اسلوب التحفيز الايجابي بالحث والتشجيع على العمل الجدي والملازمة فيه وكذلك الامر تتبع اسلوب التحفيز السلبي عن طريق الامر بالاقلال من الاستهلاك وترشيده، وهو بمفهوم المخالفة التخويف من مغبة الاستهلاك الزائد عن الحاجة. وسياسة التحفيز الانتاجية تتضمن مسألتين في غاية الاهمية وقد اشتملت عليهما الآية الكريمة وهما:المسألة الاولى: مسألة الانتاج كماً ونوعا. او ماذا ينتج المجتمع وفرع علم الاقتصاد المختص بدراسة هذه المسألة هو نظرية الثمن.ويمكن القول بان الآية الكريمة اشارت اليها في سياقها وذلك بلفظ «تزرعون» إذ تمثل الزراعة المحور الرئيسي لعجلة النشاط الاقتصادي آنذاك.ولا تخفى اهمية النشاط الزراعي (على الرغم من انه لا يحتل نفس المكانة بالنسبة للاقتصاد المعاصر) فهو صمام الامان بالنسبة لقضية الامن الغذائي للمجتمعات اضافة لذلك فهو مصدر رئيسي للمواد الاولية في الصناعات المختلفة.المسألة الثانية: مسألة الفن الانتاجي او كيف ينتج المجتمع الانتاج الممكن والمرغوب فيه وفرع علم الاقتصاد الذي يهتم بهذه المسألة هو نظرية الانتاج وقد اشارت اليها الآية في سياقها وذلك بلفظ «دأبا» إذ الدأب يقتضي العمل الجاد والملازمة والاستمرارية فيه وبالتالي شحذ القدرات واعمال الطاقات وتحفيز الافراد للاستفادة بكل الامكانات المتاحة مادية كانت ام بشرية وصولا إلى اعلى كفاءة انتاجية ممكنة ومرغوبة فيها لمواجهة الاحتياجات المتزايدة.

 سياسة الادخاروترشد اليها الآية الكريمة في سياقها وذلك بقوله تعالى «فما حصدتم فذروه في سنبله».والادخار يعني استقطاع جزء من المورد الحالي لاستثماره في تلبية احتياجات مستقبلية.ان سياسة الادخار المشار اليها في الآية، لها انعكاسات ايجابية على النشاط الاقتصادي تتمثل اولا: في المحافظة على المخزون الاستراتيجي للمجتمع لمواجهة الظروف الطارئة والمستجدات المستقبلية.ثانيا: توفير فرص افضل لتخصيص الموارد الاقتصادية على نحو يسمح باشباع الحاجات الحالية (عن طريق استهلاك الموارد المخصصة لذلك)، كما يسمح باشباع الحاجات المستقبلية (باستثمار الموارد المستقطعة عن طريق الادخار) وذلك بمحاولة ايجاد المعايير الملائمة والتخطيط الجيد لحفظ التوازن بين متطلبات الحاضر واحتياجات المستقبل.وفي علم الاقتصاد معروف ان مصدر التمويل والائتمان هو الادخار، فكلما كبرت نسبة الادخار في اقتصاد ما زادت امكانية الاستثمار فيه والعكس بالعكس.

 سياسة ترشيد الاستهلاكويشير اليها قوله تعالى «الا قليلا مما تأكلون» فالآية تحث على ان يكون الاستهلاك بالقدر القليل، الذي يسمح بإشباع احتياجات الناس، كما يسمح بوفرة في الانتاج قابلة للتخزين لمواجهة المتطلبات المستقبلية المتمثلة في الانتفاع ببقية المحاصيل في السنين المجدبة.وبالتالي يفهم من الآية حث الناس على عدم الإسراف، ومن هنا ندرك السر في اهتمام الإسلام المتواصل بالحث على الاقتصاد والاعتدال في الانفاق والتحذير من الاسراف حتى لا يؤدي بالمرء إلى هلاك نفسه وأهله وبالتالي يؤدي إلى هلاك امة بأكملها لأن الإسراف نوع من التهور والتسرع وعدم التبصر بعواقب الامور وقد يكون دليلا على الاستهتار وعدم الحكمة في تحمل المسؤولية.والآية الكريمة في مجملها «قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون»، ودون تجزئتها، التي تبرز التوجيهات الاقتصادية الثلاثة، تشير إلى عدة مسائل مهمة ألا وهي:- مسألة التوزيع بين افراد المجتمع، او على من سيوزع الانتاج وعلى أي أساس؟ وفرع علم الاقتصاد الذي تقع في نطاقه هذه المسألة هو نظرية التوزيع. فلفظ «حصدتم، ذروه، تأكلون»، كلها بصيغة الجمع وبالتالي يكون المخاطبون هم افراد المجتمع ككل هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى، فانه من المعلوم انه في الحالات التي تمر فيها المجتمعات بأزمات اقتصادية فانه ولابد من مراعاة الفروق الطبقية ومحاولة التقليل بينها، ومراعاة الاختلافات الاجتماعية واحتياجاتها والتوزيع بشكل يتناسب مع الكافة.فكما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري قوله «ان الاشعريين اذا ارملوا في الغزو، او قل طعام عيالهم في المدينة، حملوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية فهم مني وأنا منهم».ان البشر بسبب اختلاف فنون الانتاج التي ينتجون بها وبسبب مستوياتهم في المهارة والجدية في النشاط الاقتصادي لابد وان يتمايزوا في الرزق، اي بثمرات العمل المتحققة خلال ممارستهم لحق الانتفاع بوسائل الانتاج ولكن الناتج المتحقق في العمليات الانتاجية للواحد وللمجموع لابد وان يجري توزيعه بشكل اجتماعي وليس للفرد ان يستأثر به لوحده.- مسألة الكفاءة الاقتصادية انتاجا وتوزيعا. او على اي مستوى من الكفاءة يستخدم المجتمع موارده الاقتصادية في الانتاج وفي توزيع ما أنتج؟ وفرع علم الاقتصاد الذي يتناول هذه المسألة هو اقتصاديات الرفاهية.وهذه المسألة يعالجها تمازج سياسات التحفيز الانتاجي، الادخار، ترشيد الاستهلاك، اذ بهذا التمازج يتحسن الانتاج على الصعيدين الكمي والنوعي ما ينعكس بدوره على عملية التوزيع انعكاسا ايجابيا لوجود وفرة في الانتاج تساعد في عملية التوزيع على تلبية متطلبات افراد المجتمع وبالتالي رفع درجة الكفاءة الاقتصادية سواء من الناحية الانتاجية ام من الناحية التوزيعية.- مسألة التشغيل الكامل. او كيف يستغل المجتمع كل ما لديه من موارد اقتصادية؟ وفرع علم الاقتصاد الذي يقوم بدراسة هذه المسألة هو نظرية التشغيل والنقود.والآية الكريمة اذ تحث على استغلال الامكانات المادية والبشرية على حد سواء، مشيرة بذلك بلفظي تزرعون (للامكانات المادية) ودأبا (للامكانات البشرية) فانها تدعو بذلك للاستفادة من كل الموارد الاقتصادية المتاحة.وما يتضح لنا من تمازج سياسات التحفيز الانتاجي والادخار وترشيد الاستهلاك، يؤكد لنا الدعوة إلى حسن استغلال الموارد الاقتصادية.- مسألة تنمية الطاقة الانتاجية للاقتصاد القومي. او كيف يتسنى للمجتمع ان ينمي قدراته على انتاج مزيد من السلع في المستقبل؟ وفرع علم الاقتصاد الذي يعالج هذه المسألة هو نظريات النمو والتنمية والتخطيط الاقتصادي.والآية بتحديدها للنشاط الاقتصادي والمتمثل في الزراعة (مشيرة إليه بلفظ تزرعون) وتحديد المدى الزمني مشيرة اليه بسبع سنين، وذلك كأساس للخطة الاقتصادية في المستقبل وتحديد كيفية تنمية القدرات على الانتاج (مشيرة اليه بلفظ دأبا)، والادخار من اجل مواجهة المحنة الاقتصادية المقبلة- مشيرة إلى ذلك بنصها «فما حصدتم فذروه في سنبله»- وترشيد الاستهلاك- مشيرة إلى ذلك بنصها «الا قليلا مما تأكلون»- كل ذلك لهو جدير بان يصلح كأسس لنظرية عامة شاملة للتخطيط الاقتصادي القومي وتنمية طاقته الانتاجية.وختاما اقول ان ما ورد من محاولة تفسير آية من كتاب الله، والذي ابرز- التفسير- الاعجاز التشريعي للقرآن الكريم بان جمع فروع علم الاقتصاد كله في اية واحدة، ليس معناه ان نخضع هذا التفسير للاهواء بحيث يتطابق او يتواءم مع المعطيات الحديثة للعلوم الانسانية او العلوم الكونية، ولكن معناه ان العقول السليمة تستطيع بالفطرة السوية ان تهتدي إلى ما احتواه القرآن من اشارات «هي من أوضح صور الاعجاز في كتاب الله اذا نظر الانسان اليها بشيء من الموضوعية والحيدة والتبصر والحكمة».إن هذا العلم هو شيء قليل من اعجاز الكتاب المنير، ودعوة الله سبحانه وتعالى لعباده بالتفكير والتدبر هو نوع آخر من تلك الهداية، وذلك الدليل الذي يمكن ان يلمح الانسان خلاصته من خلال شعاع يأتيه من هذه الفكرة والتذكره والتدبر العميق قوله تعالى «ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار».كذلك الامر ينبغي دق ناقوس الخطر وإيقاظ المسلمين من غفلتهم لبعدهم عن كتاب ربهم واستعادة الصلة بينهم وبين قرآنهم، كي نستعيد مجدنا الضائع ولا يستأثر الغرب بمثار القرآن ويكشف عن اسراره وينسبها لنفسه، ثم نحاول بعد ذلك التوفيق بين ما وصل اليه الغرب من علم ومعرفة وما اشار اليه القرآن.«واذا كان سباق الحضارات يظهر في بعض الاحيان تراجع المسلمين عن المقدمة التي من الواجب أن يتبوؤها دون ادنى شك في ذلك، فان ذلك يعني ثمة خللا في اداء المسلمين وفهمهم لكتاب الله، وان عليهم مراجعة الامر فلا يليق باصحاب القرآن، ان يتخلفوا عن ركاب العلم، وان يستوردوه من هؤلاء الذين لا يؤمنون بالقرآن، والحل بسيط يكمن في قراءة متأنية لكل حرف من حروف القرآن الكريم، ونشر فضيلته السابقة والتي أراد الله أن يكرم بها الانسان وهي العلم».