| جاد الله فرحات |

قال الامام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - في رسالة إلى احد اخوانه: «اللذة التامة والفرح والسرور وطيب العيش والنعيم، انما هو في معرفة الله وتوحيده، والانس به، والشوق إلى لقائه، واجتماع القلب والهم عليه... وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم اهل الجنة، الا هذا، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» رواه احمد والنسائي وصححه الألباني.فاخبر انه حبب اليه من الدنيا شيئان: «النساء والطيب» ثم قال «وجعلت قرة عيني في الصلاة».وقرة العين فوق المحبة، فإنه ليس كل محبوب تقر به العين وانما تقر العين بأعلى المحبوبات الذي يحب لذاته، وليس ذلك الا الله الذي لا اله إلا هو، وكل ما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته، فيحب لاجله، ولا يحب معه، فإن الحب معه شرك، والحب لاجله توحيد.فالمشرك يتخذ من دون الله اندادا يحبهم كحب الله، والموحد انما يحب من يحبه لله، ويبغض من يبغضه في الله، ويفعل ما يفعله لله، ويترك ما يتركه لله.واذا كان الحب اصل كل عمل من حق وباطل، فاصل الاعمال الدينية حب الله ورسوله، كما ان اصل الاقوال الدينية تصديق الله ورسوله، وكل ارادة تمنع كمال حب الله ورسوله، وتزاحم هذه المحبة فإنها تمنع كمال التصديق، فهي معارض لاصل الايمان او مضعفة له، فإن قويت حتى عارضت اصل الحب والتصديق كانت كفرا او شركا اكبر، وان لم تعارضه قدحت في كماله، واثرت فيه ضعفا وفتورا في العزيمة والطلب، وهي تحجب الواصل وتقطع الطالب، وتنكس الراغب، فلا تصلح الموالاة إلا بالمعاداة، كما قال تعالى عن امام الحنفاء المحببين انه قال لقومه: (قال افرأيتم ما كنتم تعبدون (75) انتم وآباوكم الاقدمون (76) فإنهم عدو لي الا رب العالمين (77) سورة الشعراء 75 - 77 فلم تصلح لخليل الله هذه الموالاة والخلة الا بتحقيق هذه المعادلة فإن ولاية الله لا تصح إلا بالبراءة من كل معبود سواء: (قد كانت لكم اسوة حسنة في ابراهيم والذين معه اذ قالوا لقومهم انا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تومنوا بالله وحده الا قول ابراهيم لأبيه لاستغفرن لك وما املك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير) سورة الممتحنة4، وقال تعالى (واذ قال ابراهيم لأبيه وقومه انني براء مما تعبدون 26، انا الذي فطرني فإنه سيهدين 27، وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون 28) سورة الزخرف 26 - 28 اي: جعل هذه الموالاة لله والبراءة من كل معبود سواه كلمة باقية في عقبه، يتوارثها الانبياء واتباعهم، بعضهم عن بعض، وهي كلمة: لا إله إلا الله، وهي التي ورثها امام الحنفاء لاتباعه إلى يوم القيامة، وهي الكلمة التي قامت بها الارض والسموات وفطر الله عليها جميع المخلوقات وعليها اسست الملة ونصبت القبلة وجردت سيوف الجهاد وهي محض حق الله على جميع العباد وهي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار والمنجية من عذاب القبر وعذاب النار وهي المنشور الذي لا يدخل احد الجنة الا به والحبل الذي لا يصل إلى الله الا من يتعلق بسببه وهي كلمة الاسلام ومفتاح دار السلام وبها انقسم الناس إلى شقي وسعيد، ومقبول وطريد، وبها انفصلت دار الكفر من دار الاسلام وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان، وهي العمود الحامل للفرض والسنة «ومن كان آخر كلامه لا اله الا الله دخل الجنة».وروح هذه الكلمة وسرها: افراد الرب جل ثناؤه وتقدست اسماؤه وتبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره: بالمحبة والاجلال والتعظيم، والخوف والرجاء وتوابع ذلك من التوكل والانابة والرغبة والرهبة، فلا يحب سواه، بل كل ما كان يحب فإنما هو تبع لمحبته، وكونه وسيلة إلى زيادة محبته، ولا يخاف سواه، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل الا عليه، ولا يرغب الا اليه، ولا يطاع الا امره، ولا يتحسب الا به، ولا يستعان في الشدائد الا به، ولا يلتجأ إلا اليه، ولا يسجد إلا له، ولا يذبح الا له وباسمه، ويجتمع ذلك في حرف واحد وهو: ان لا يعبد بجميع انواع العبادة الا هو فهذا هو تحقيق شهادة ان لا إله الا الله، ولهذا حرم الله على النار ان تأكل من يشهد ان لا اله الا الله حقيقة الشهادة ومحال ان يدخل النار من تحقق بحقيقة هذه الشهادة وقام بها كما قال تعالى: (والذين هم بشهاداتهم قائمون) المعارج 33، فيكون قائما بشهادته في باطنه وظاهره، وفي قلبه وقالبه، فان من الناس من تكون شهادته ميتة، ومنهم من تكون نائمة، اذا نبهت انتبهت، ومنهم من تكون مضطجعة، ومنهم من تكون إلى القيام اقرب، وهي في القلب منزلة الروح في البدن، فروح ميتة وروح مريضة إلى الموت اقرب، وروح إلى الحياة اقرب، وروح صحيحة قائمة بمصالح البدن، وفي الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم-: (اني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت إلا وجدت روحه لها روحا) فحياة هذه الروح بهذه الكلمة، فكما ان حياة البدن بوجود الروح فيه وكما ان من مات على هذه الكلمة فهو في الجنة يتقلب فيها، فكذلك من عاش على تحقيقها والقيام بها فروحه تتقلب في جنة المأوى وعيشها اطيب عيش قال تعالى (واما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي المأوى (41) النازعات 40 - 41 فالجنة مأواه يوم اللقاء، وجنة المعرفة والمحبة والانس بالله والشوق إلى لقائه والفرح به والرضى عنه، وبه مأوى روحه في هذه الدار، فمن كانت هذه الجنة مأواه ههنا، كانت جنة الخلد مأواه يوم الميعاد، ومن حرم هذه الجنة فهو من تلك الجنة اشد حرمانا) والابرار في نعيم وان اشتد بهم العيش وضاقت بهم الدنيا، والفجار في جحيم وان اتسعت عليهم الدنيا، قال تعالى: (من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل 97، وطيب الحياة جنة الدنيا، قال تعالى: (فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) الانعام 125، فأي نعيم اطيب من شرح الصدر، واي عذاب اشد من ضيق الصدر، وقال تعالى (الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) سورة يونس 62 - 64، فالمؤمن المخلص لله من اطيب الناس عيشا وانعمهم بالا واشرحهم صدرا، واسرهم قلبا، وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر» ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» ومن هذا قوله - صلي الله عليه وسلم - وقد سألوه عن وصاله في الصوم: «اني لست كهيئتكم، ان اظل عند ربي يطعمني ويسقيني» فاخبر صلى الله عليه وسلم ان ما يحصل له من الغذاء عند ربه يقوم مقام الطعام والشراب الحسي، وان ما يحصل له من ذلك امر مختص به لا يشركه فيه غيره، فإذا امسك عن الطعام والشراب فله عوض عنه يقوم مقامه وينوب منابه، ويغني عنه كما قيل:لها احاديث من ذكراك تشغلهاعن الشراب وتلهيها عن الزادلها بوجهك نور تستضيء بهومن حديثك في اعقابها حادياذا اشتكت من كلال السير او عدهاروح اللقاء، فتحيي عند ميعاد

 امام وخطيب