تظهر علامات النجابة ومخايل العبقرية في الصغر، حتى لا يكاد يشك ذو فراسة ايمانية صادقة في صيرورة صاحبها إلى تسلم ذرا العلا والتربع على قمة المجد، والارتقاء إلى منصب الإمامة.عن محمد بن الضحاك ان عبدالملك بن مروان قال لرأس جالوت او لابن رأس جالوت: «ما عندكم من الفراسة في الصبيان؟»، قال: «ما عندنا فيهم شيء، لأنهم يخلقون خلقا بعد خلق، غير ان نرمقهم، فان سمعنا منهم من يقول في لعبه: «من يكون معي؟» رأيناه ذا همة وحنو صدق فيه، وان سمعناه يقول: «مع من أكون؟» كرهناها منه، فكان اول ما علم من ابن الزبير انه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان، وهو صبي، فمر رجل فصاح عليهم، ففروا، ومشي ابن الزبير القهقري، وقال: «يا صبيان اجعلوني أميركم، وشدوا بنا عليه».ومر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو صبي يلعب مع الصبيان ففروا ووقف، فقال له: «ما لك لم تفر مع اصحابك؟»، قال: «يا أمير المؤمنين! لم أجرم فأخاف، ولم تكن الطريق ضيقة، فأوسع لك».قال يحيى بن ايوب العابد: حدثنا ابو المثنى قال: (سمعتم بمرو يقولون: «قد جاء الثوري، قد جاء الثوري»، فخرجت انظر اليه، فاذا هو غلام قد بقل وجهه).قال الذهبي: «كان ينوه بذكره في صغره من اجل فرط ذكائه وحفظه، وحدث وهو شاب»، وقال بن مهدي: رأى أبو اسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلا، فقال: (وآتيناه الحكم صبيا). وكان البخاري ذكيا سريع الحفظ، فقد حفظ سبعين الف حديث وهو صغير، وكان ينظر إلى الكتاب، فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة، قال محمد بن حاتم: (كنت اختلف انا والبخاري- وهو غلام- إلى الكتاب، فيسمع ولا يكتب، حتى اتى على ذلك ايام، فكنا نقول له يكتب مثلنا، فلما بلغ ما كتبناه خمسة عشر ألف حديث طلب منا أن نسمعها منه، وقرأها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه).وروى الذهبي عن محمد بن ابي حاتم قال: سمعت ابا عبدالله محمد بن اسماعيل يقول: (وكنت اختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبي، فاذا جئت أستحي ان اسلم عليهم، فقال مؤدب من أهلها: «كم كتبت اليوم؟» فقلت: «اثنين» وأردت بذلك: حديثين- فضحك من حضر المجلس، فقال شيخ منهم: «لا تضحكوا! فعله يضحك منكم يوما».وقال بكر بن منير: سمعت البخاري يقول: (كنت عند ابي حفض احمد بن حفص، اسمع كتاب «الجامع» لسفيان الثوري، من كتاب والدي، فمر ابو حفص على حرف ولم يكن عندي ما ذكر، فراجعته، فقال الثانية والثالثة، فراجعته فسكت، ثم قال: «من هذا؟» قال «ابن اسماعيل»، فقال: «هو كما قال، واحفظوا ان هذا يصير يوما رجلا»).وقال الامام محمد بن ادريس الشافعي، رحمه الله تعالى: (كنت يتيما في حجر امي، فدفعتني إلى الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني ان اخلفه اذا قام، فلما جمعت القرآن دخلت المسجد، فكنت اجالس العلماء، وكنت اسمع الحديث والمسألة فاحفظها، فلم يكن عند امي ما تعطيني اشتري به القراطيس، فكنت انظر إلى العظم فآخذه فاكتب فيه، فاذا امتلأ طرحته في جرة، فاجتمع عندي حبان).وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: (كنت وأنا في الكتاب اسمع المعلم يلقن الصبي الآية، فاحفظها انا، ولقد كان الصبيان يكتبون املاءها، فالى ان يفرغ المعلم من الاملاء عليهم كنت قد حفظت جميع ما أملي، فقال لي ذات يوم: «ما حل لي ان آخذ منك شيئا».قال: (ثم لما ان خرجت من الكتاب كنت التقط الخزف، والرقوق، وكرب النخل، واكتاف الجمال، اكتب فيها الحديث، أجيء إلى الدواوين، واستوهب منها الظهور، فاكتب فيها، حتى كان لامي حبان، فملأتهما اكتافا).وحفظ الإمام احمد بن حنبل القرآن في صباه وتعلم القراءة والكتابة، ثم اتجه إلى الديوان يمرن على التحرير، ويقول عن نفسه: «كنت وانا غليم اختلف إلى الكتاب، ثم اختلفت إلى الديوان وانا ابن اربع عشرة سنة، وكانت نشأته فيها اثار النبوغ والرشد حتى قال بعض الآباء: «وأنا انفق على ولدي واجيئهم بالمؤدبين على ان يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا احمد بن حنبل غلام يتيم، انظروا كيف!! وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته.وقال الحافظ ابن عبدالهادي بن قدامه رحمه الله: (بلغني ان بعض مشايخ حلب قدم إلى دمشق، وقال: «سمعت ان في هذه البلاد صبيا يقال له: احمد بن تيميه سريع الحفظ، وقد جئت قاصدا لعلي اراه»، فقال له خياط: «هذه طريق كتابه، وهو إلى الآن ما جاء فاقعد عندنا الساعة يمر ذاهبا إلى الكتاب». فلما مر قيل: «ها هو الذي معه اللوح الكبير»، فناداه الشيخ، وأخذ منه اللوح، وكتب له من متون الحديث احد عشر او ثلاثة عشر حديثا، وقال له «اقرأ هذا»، فلم يزد على ان نظر فيه مرة بعد كتابته اياه، ثم قال: «اسمعه علي»، فقرأه عليه عرضا كأحسن ما يكون، ثم كتب عدة اسانيد انتخبها، فنظر فيها كما فعل او مرة فحفظها، فقال الشيخ، وهو يقول: «ان عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فان هذا لم ير مثله «فكان كما قال»).ورويت عن الفرزدق- وهو غلام- حادثة فريدة- فقد اخذه ابوه «غالب بن صعصعه» وكان من اشراف تميم إلى مجلس علي بن ابي طالب كرم الله وجهه، وقال له: يا أمير المؤمنين اسمع من ابني فانه شاعر مضر، فقال علي رضي الله عنه: علمه القرآن.فعاد الاب بابنه، ولما وصلا إلى دارة تميم وبني دارم دخل الغلام المسجد، وربط نفسه بسارية المسجد، والا يفك نفسه حتى يحفظ القرآن، وعبثا حاول اهله اقناعه بان يحفظه وهو في عافية من ذلك، وظل الفرزدق الصبي مصرا على تقييد نفسه، حتى حفظ كتاب الله كله، وكان يفك نفسه للوضوء والصلاة فقط، وتأتيه امه بطعامه إلى السارية وكانت حادثة فريدة.فالعجب من أمور، ههنا:الأول: ان يكون غلام دون البلوغ شاعرا معروفا في بني تميم والعرب حتى يذهب به إلى مجلس امير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه، فالفرزدق اذا كان نجيبا ذكيا مثيرا للانتباه وهو بعد طفل.والثاني: ضيق الغلام بنفسه، وكان ينتظر من الامام التشجيع والموافقة والثناء فيعود مزهوا مفتخرا فاذا به يجابه بما لم يكن ينتظر، وكان ماجوبه به حقا وصوابا، «علمه القرآن» فما ينبغي في مناهج تربية المسلمين وتأديبهم لابنائهم ان يعمروهم- أول ما يعمروهم- بغير القرآن فضاق الفرزدق الصبي بنفسه، وحنق بحاله، كيف يذهب يفخر بالشعر ولا يحفظ بعد القرآن، ولذلك فحين عاد إلى محلته قيد نفسه بسارية المسجد تأديبا لها حتى يحفظ القرآن، وقد حفظه، وكان هذا وحده كافيا للدلالة على نجابة الفرزدق- غلاما- وكفايته وذكائه وسمو نفسه.وقد ذهب عمله هذا مثلا في اجيال العرب، فهذا ابو بكر محمد بن احمد الانصاري المعروف بالابيض، وهو من اهل الاندلس، يسأل مرة عن لغة فيعجز عنها فماذا فعل، قيد نفسه في المسجد حتى يتقن العربية لسان القرآن، وارتاعت امه فقال:ريعت عجوزي ان راتني لابساحلق الحديد ومثل ذاك يروعقال: جننت فقلت: بل هي همةهي عنصر العلياء والينبوعسن الفرزدق سنة فتبعتهاإني لما سن الكرام تبوع
* إمام وخطيب