بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشهد التاريخ الإسلامي حتى يومنا هذا، ولن يشهد، شخصية تمثل رمزاً لمعنى ومفهوم التسامح مثل شخصية الخليفة الراشد الإمام علي (كرم الله وجهه). فقد أسس هذا الإمام العادل نظرية التسامح، والتي تفرعت منها معان ونظريات عدة، منها التسامح الديني والتسامح العرقي وغيرها من القيم المبنية على نظرية التسامح للإمام علي.وقد سبق الإمام على بنظريته هذه عن التسامح، المنظرين والفلاسفة في أوروبا، والذين بشروا بالقيم الغربية والمفهوم الغربي السائد الآن عن التسامح الديني والعرقي وحرية التعبير. وقد مكنت العوامل والظروف الإمام علي من تأسيس هذه النظرية والدعوة إليها وممارستها مع الآخرين حتى آخر يوم في استشهاده. ومن هذه العوامل أنه تربى في بيت النبوة وتخلق بالأخلاق المحمدية، وتزوج من زهراء المصطفى، أعز بناته وسيدة فتيات أهل الجنة فاطمة الزهراء، كما أنه والد سيدي شباب أهل الجنة، بالإضافة إلى أنه باب مدينة العلم، كما جاء في الحديث الشريف. هذه العوامل كلها مكنت الإمام علي من تأسيس نظرية التسامح مع الآخرين، سواء كانوا المؤيدين أو المخالفين أو المعارضين له. ويمكن أن نحدد أهم أسس هذه النظرية بالتالي:1 - احترام وتقبل الآخر: وخير مثال على هذا المفهوم هو ما جسده الإمام علي نفسه حينما رضي أن يقف مع اليهودي ليختصما أمام شريح القاضي بخصوص درعه التي سقطت منه بموقعة صفين، ليقول لشريح إن الدرع درعه وعلامتها كيت وكيت، وهذا الحسن بن علي شاهد على ذلك، ليرد شريح «يا أمير المؤمنين...إني أعلم أنك صادق ولكن ليس عندك بينة، وشهادة الحسن لا تنفعك لأنه ابنك وقد حكمنا بالدرع لليهودي، ليتقبل الإمام علي هذا الحكم ويحترم الرأي المخالف، مطبقاً مبدأ من مبادئ نظريته عن التسامح.2 - العفو والغفران: لقد طبق الإمام علي هذا المبدأ مع معارضيه. فحينما انتصر الإمام علي في موقعة الجمل، لم تحركه مشاعر الانتقام، والتي لا وجود لها أصلاً في شخصيته، وأعلن العفو والصفح عن كل المشاركين بالحرب من مخالفيه ومناوئيه والخارجين على خلافته وإمامته للمؤمنين، مؤكداً مبدأ من مبادئ نظريته وهو العفو والغفران.3 - العدل والمساواة: ولعل قصة استشهاد الامام علي ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان عام 40 للهجرة مثال عظيم على مبدأ العدل والمساواة لتلك النظرية. فعندما قام الخارجي عبد الرحمن بن ملجم بضرب الامام على رأسه قاصداً قتله، قال الإمام العادل، وهو يواجه اللحظات الاخيرة لانتقاله إلى الرفيق الأعلى، عندما قبض على قاتله قال لأصحابه: «النفس بالنفس، إن أنا متُ فاقتلوه، وإن سلمت...رأيت فيه رأيي». أي أن الإمام أراد تطبيق العدل والمساواة في الجرم والعقاب، فلا تمثيل بالجثة، ولا قتل لاي من أهله أو أصحابه لا ضرر يلحق بعشيرته. وحينما يتفوق الجزاء على الفعل والعقاب على الجرم، يصبح هناك عدم مساواة وعدل.إن في سيرة الإمام علي، وتطبيقه لمبادئ نظريته عن التسامح، دروساً وعبراً حري بنا أن ننتهجها وأن نستنبط منها نظريات فرعية وقوانين وقرارات في حياتنا، كنظرية التسامح المروري مثلاً، وهي احترام وتقبل السائقين الآخرين لأن الطريق ملك الجميع، والعفو عندما يخطئ السائق وأنت تسير بالطريق فتعمل على تصحيح خطئه من دون أن تترك عملية السير، وكذلك مبدأ العدل والمساوة وتعني أن من يسير بسرعة تفوق المعدل وهي 120 كيلو متراً، ويتسبب بمقتل عائلة، فإن العدالة والمساواة تقول إنه قتل مع سبق الاصرار، ويجب أن يكون العقاب مساوياً للجرم لأنه تخطى السرعة المحددة.لقد عجز التاريخ وعجزت الأمم وعجزت الحضارات وعجزنا نحن المسلمين من شيعة وسنة أن نؤسس نظرية للتسامح مثل الإمام علي، فإن فعلوا وفعلنا، فهي نظريات ناقصة ومبتورة وليست متكاملة ولا تساوي ذرة. فسلام عليك ايها الإمام المتسامح يوم ولدت، وسلام عليك يوم تربيت وتررعت، وسلام عليك يوم صاهرت، وسلام عليك يوم وليت، وسلام عليك يوم استشهدت، وسلام عليك يوم تبعث حيا.
طارق آل شيخان الشمريرئيس مجلس العلاقات الخليجية الدولية (كوغر)admin@cogir.org